مقال كتبته السيدة حرم المرحوم الدكتور محمد رضا رحمها الله ( بمجلة الهدي النبوي مج 24 العدد 7 رجب 1379 ه ) عن آفة من الأفات وخلق ذميم ينتشر بين الناس هو : السخرية !! وهكذا نشرت صفة الكاتبة بجوار المقال بدلا من الاسم الصريح . * * * السخرية حرم المرحوم الدكتور محمد رضا السخرية داء الجاهل المغرور بنفسه الذي لا يجد ما يقضى به فراغ وقته إلا الثرثرة والتهكم على غيره ؛ لأنه محروم من نور العلم ومتعة التفكير . فلم يعرف لجهله أن أقدار الناس ليست بالأموال والمناصب والمظاهر ، بل بكرم الأخلاق وتقوى القلوب . ولم يفهم قوله تعالى { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [ الحجرات : 13 ] وقوله { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ } [ الحجرات : 11 ] فكم من جاهل سخر من فقير لفقره أو دميم لشكله ، وهما أزكى منه قلبًا وأعلى منه عند الله قدرًا . بل وكم من ساخر وهو سخرية ومن عائب وهو أكثر الناس عيبًا ؛ لأن المغرور بنفسه لا يشعر بنقصه ، ولأن فارغَ العقل شرهُ اللسان ، لا لذة له في الحياة كالتهكم والانتقاد . أعظم شهوته أن يكون للعيوب بالمرصاد . وأن يتربص لها تربص الثعلب للاصطياد . فيجعل من عينه (( كاميرا )) تلتقط عدستها كل حركة ، ويتخذ من أذنه فيلمًا يسجل كل همسة ونبسة . ثم يفحص الأشكال ويحلل الأعمال ويمحص الأقوال ليستخرج منها الهفوات والنقائص والعيوب . وبعد ذلك يتنقل في كل ناد لينشر ما جمع . ويهيم في كل واد ليذيع ما سمع . فهذا المخلوق العجيب يعيش حائما حول القاذورات ليجمعها ، ثم يجول في كل النواحي ليوزعها ، كالذبابة تقضى حياتها حائمة هائمة في كل الأرجاء ، تقع على الأقذار فتنقل الجراثيم وتنشر الأوباء . وكل ذلك ليشبع نهم نفسه الدنيئة بالتهام الأعراض ونهش لحوم الغافلين الغائبين ، وليحظى لسانه بلذة الثرثرة فيلهو وينعم ، لأنه لا يعيش إلا ليتكلم ، فلا ينظر ولا يصغى إلا ليتهكم . حقًا مَنْ قَصُر عقله طال لسانه . قال الرسول صلى الله عليه وسلم (( أمسك عليك هذا . وأخذ بلسانه . فقال معاذ : أونؤاخذ يا رسول الله بما نتكلم به ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : ثكلتك أمك . وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم )) . فما أقذر وأجرم هذا اللسان ، الذي ينفث السموم في الآذان ، وقبحًا لهمَّاز مشّاء بنميم . لا يعاف أن يأكل لحم أخيه وهو رميم ، فيسوقه لسانه إلى عذاب الجحيم ، وتحرق لذةُ الكلام لذةَ النعيم ، فإن لذة الكلام عند بعض الناس تفوق كل لذة حتى أنهم لا يشق عليهم أن يصوموا عن الكلام ، فلا يطيقون أن يكفوا عنه إلا كما صرعهم النوم . ولذلك كان الصيام عن الطعام كما يشق عليهم أن يصوموا عن الكلام عبادة فجعله الله تعالى آية على استجابة دعوة عبده زكريا . فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا . وجمل الله مريم حين اتهمها قومها إذ جاءت بابنها عيسى فزعموه شيئًا فريًا . قالت : { إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّا } [مريم: 26] . وكان من آيات الإيمان في قول الرسول صلى الله عليه وسلم : (( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت )) . * * * فلا يسوق الجاهل إلى السخرية من غيره كالرغبة الملحة في الكلام ؛ لأنه لا يجد ما يتكلم عنه بعدما يفرغ جعبته وما أقل ما تحتويه ، فيبحث عن شيء ليتحدث عنه وينقب عن عيب ليسخر منه ، وهو لا يشبعه ما يراه وما يسمعه في المجالس فيضطر إلى الاختلاق والتظنن بل والتجسس ، فيرسل عينه وأذنه تخترقان الأبواب والجدران ليسقط ما يقع وما يقال . * * * ولما كان الساخر قل أن يجرؤ على السخرية من غيره إلا في غيابه ، كانت الغيبة من ثمرات السخرية . وهكذا يقترف الساخر عدة ذنوب ، فيحمل عدة أوزار في سبيل لذة الثرثرة الممقوتة . ولذلك حذر الله تعالى من رذيلة السخرية التي تسوق إلى غيرها من الرذائل . فإذا تدبر الإنسان سياق القرآن في نظم هذه الرذائل في سلك واحد متتابعة ، وجد أنه سبحانه بدأها بالسخرية وختمها بالاغتياب مما يدل على أنها مرتبطة ببعضها ، بل هي ناشئة عن بعضها ومنشئة كل واحد منها للأخرى . فلما كانت السخرية تدعو الساخر إلى التظنن ، قرن الله تعالى النهي عنها بالتحذير من سوء الظن وأمر بالتروي والتبصر حتى لا تقع في الإثم جريُا وراء الظنون الخاطئة . ولما كان من لوازم سوء الظن التجسس والحرص على تتبع العيوب قرن الله تعالى التحذير منه بالنهي عن التجسس . فاسمع لقوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُو } [ الحجرات : 12 ] . لم يأمر باجتناب الظن كله . فليس كل الظن إثما . بل إن بعضه قد يكون طرف حبل اليقين إذا أخذه العاقل وتتبعه انتهى به إلى حقيقة ينبغي للمسلم أن يعرفها ويتقيها ليسلم من شرها إذ لا يليق بمؤمن أن يكون أبله غبيًا تخدعه الناس ويغلبوه على أمره . وربما أفضى بلهه إلى تشويه سمعته وتلويث عرضه وهذا لا يصلح أن يكون مثلًا للإسلام . * * * أما الظن الخاطئ الآثم فإنه ما لا يستند إلا إلى الإشاعات بلا برهان قاطع وهذا ثمرة اللؤم وخبث النفس لأن سوء الظن بلا دليل لا ينتج إلا من سيء الأخلاق والأعمال . فإذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه فالخائن لا يصدق أن هناك أمينًا . والكاذب لا يظن أن في الوجود صادقًا . وهكذا من كان لئيما ظن اللؤم طبعًا في الناس غالبًا . أما المؤمن الكريم فإنه لا يسرع إليه سوء الظن ولا يحكم إلا بعد التثبت والبرهان لأن كريم الخلق حسن الطوية لابد أن يكون حسن الظن كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم (( المؤمن غِر كريم . والمنافق خَب لئيم )) . ولما كانت هذه الظنون السيئة تفضى ولابد إلى الغيبة قرن الله تعالى التحذير من سوء الظن الآثم بالتحذير من الغيبة فقال { وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ } [ الحجرات : 12 ] . صور الله تعالى المغتاب في أشنع صورة بأنه يأكل لحم أخيه ميتًا ، فَمَثَّل العيوب والنقائض التي يتحراها المغتاب بالجيفة المنتنة . ومثل الغائب بالميت لأنه لا يستطيع الدفاع عن نفسه . فالمغتاب خائَّن جبان يطعن غيره في ظهره ، ولا يجرؤ لنذالته أن يطعنه في صدره . * * * وقد بين الله تعالى في القرآن أن إفشاء المساوئ لا يجوز إلا لمن ظلم فاضطر إلى الجهر بها ليستغيث ممن ظلمه . قال تعالى { لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ } [ النساء : 148 ] فلابد للمظلوم أن يبسط شكايته ويشرح ظلامته فيذكر ما فعل الظالم ليكشف عن إساءته ويثبت سوء فعلته . أما من يفشي مساوئ الناس ليلهو ويستمتع بفضيحتهم والحط من كرامتهم . بل ويزيد فيها ما يستنبطه من سوء ظنه فإنه مجرم أثيم يزرى بنفسه وغيره في الدنيا ويظلم نفسه في الآخرة بما يجلبه لها من عذاب بلهوه الآثم ومتعته البغيضة . والسخرية والاغتياب يزريان بالمرء ويحطان من قدره ويدعوان الناس إلى احتقاره واجتنابه . فإن العاقل يعلم جيدا أن من يسخر من غيره يسخر منه وأن من ينقل له ينقل عنه . فيجتنب هذه الأذن المتجسسة المتربصة . ويهرب من هذه العين المحدقة المتلصصة . التي تُصَوِّب عدستها إليه كرها لتفحصه . إذ لا هم لها إلا أن تهتك في كل واحد نقائصه فلا يخالط ويصادق الغياب إلا غياب مثله يقابل اغتيابه له بالاغتياب ويأكل من لحمه كما أكل . فالجزاء من جنس العمل . وقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من السخرية والاغتياب والثرثرة في قوله (( طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس ، وأمسك الفضل من قوله وأنفق الفضل من ماله )) وفي قوله (( كلام ابن كله عليه لا له . إلا أمرًا بمعروف أو نهيًا عن منكر أو ذكر الله عز وجل )) . فاعقل لسانك أيها العاقل إلا عن حق توضحه أو باطل تدحضه أو حكمة تنشرها أو نعمة تشكرها أو حسنة تذكرها . ولعل ما تستقبحه من غيرك يوجد فيك ما هو أقبح منه وأنت عنه غافل فتستلفت بعيبك الناس انتباههم لعيوبك فتكون موضع السخرية والأزدراء . قال الشاعر : لا تلتمس من مساوى الناس ما ستروا * * * فيهتك الله سترا من ساويكا واذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا * * * ولا تعب أحدا منهم بما فيكا واعلم أن عقلك مخبوء تحت لسانك . فعندما تفتح فمك يطل منه عقلك . وتأمل أيها المغتاب النمام وابل الأوزار التي تتساقط من فيك وتتراكم على ظهرك . واتق شر لسانك الظالم لنفسك المسيء إلى غيرك . فهو نعمة إذا استخدمته في الدعوة إلى الله ونصرة الحق ، وهو نقمة إذا أطلقته في نشر الفساد وأذية الخلق . فاحذر أذاه وألجمه من الحكمة بلجام . وأمسك بعنانه لتردعه عن الحرام . وقبل أن تنطق زن ومحِّص الكلام . ولا تنس أن الله قد جعل عليك الحفظة الكرام . الكاتبين لما تقول وما تفعل من بر وآثام . { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ } [ قّ : 16 – 17 ] . * * *