ظاهرة عجيبة ألاحظها علي ساحتنا الفكرية الدينية في السنوات الأخيرة، كلما جاء أحد المفكرين برأي جديد، نجد عشريات المتسمين بالدين يتصدون له وياليتهم يقفون لرأيه بالنقد والتحليل، وبيان مدي صحة أدلته أو بطلانها، بل هم يتعرضون لشخصه بالسب والقذف والسخرية، وإذا جاءوا في ردودهم بكلمة في الموضوع فيجانبها عشرات في التجريح الشخصي! الهجوم علي جابر عصفور آخر ما حدث من هؤلاء الذين يطلقون علي أنفسهم «جبهة علماء الأزهر» «لا وجود لها بحكم قضائي!» هذا الهجوم الفاحش علي الدكتور جابر عصفور، المفكر المتواضع الإنسان، لأنه كتب مقالاً يؤيد فيه نشر كتاب «ألف ليلة وليلة» ويرد علي موقفهم من نشره، وقرأنا بتعبير رئيس تحرير القاهرة- أكثر الألفاظ فحشاً وأبعدها عن التهذيب! وقد ذكرني الموقف بواقعة أخري، أكثر شفاعة، قرأنا عنها منذ سنوات: أحد الكتاب ألف كتابا، اعتبر هؤلاء أن ما جاء به فيه مساس بالدين، ورفعوا دعوي أمام القضاء، وقدم الكتاب للمحاكمة، وبرأ القاضي ساحة الكاتب، وكتب في الحيثيات ما رآه متوافقاً مع نص القرآن وروحه قال: «إن هذا التعارض «بين الكاتب وبين معارضيه» لا سبيل لرفعه بأن ينفي أحد الطرفين الآخر أو يصادره، لما في ذلك من تعارض مع أحكام الدستور بأن لكل إنسان الحق في التعبير عن رأيه ونشره بالقول، أو الكتابة، أو التصوير، وبالتالي فإن سبيل رفع هذا التعارض هو الحوار العلمي الرصين والاجتهاد من كل طرف، وليتناضل الطرفان في ذلك الأمر إثباتاً ونفياً، وصولاً إلي وجه الحق.. لكنه لا يمثل ضرراً عاماً يستوجب الحجر علي فكر المؤلف ». أ.ه. وبالرغم من ذلك قام أحد علماء الدين بالرد علي مؤلف الكتاب، وكنت أظنه رداً مستهدفا الحق مستوحياً رأي القاضي بأن يكون نضالاً بالكلمة وحواراً علمياً رصيناً والرأي بالرأي والحجة بالحجة، لكنه لأسفي وأسف كل عاقل، ابتعد عن هذا كله، وسلك سبيل السباب والشتائم، واستعمل من الألفاظ ما لا يليق برجل كريم، بل رجل دين!! تحريض وأطلب عفوكم وأنا أثبت هنا فقرتين من أسلوبه، وتحريضه علي الكاتب المجتهد ومن يحذون حذوه: - ما أقبح وجه الإلحاد!! وما أشأمه علي أهله وعلي الساكتين عليه!! إنه في حقيقة أمره جماع الأخلاق السافلة والطباع اللئيمة، الأمر الذي يجعل صاحبه قريناً لأخس الحيوانات قيمة وقدراً في هذا الوجود. إن أساس نشاطهم الريبة التي سلطها الله عليهم لحقارتهم «!!». ينبغي أن يعامل معاملة الأجرب الحقير «!!» فكيف بهذا الملعون إذا جمع إلي حقارته ووضاعته التجرؤ علي الله علانية والهزء بدينه صراحة إني أري المسارعة إلي منازلة المبطلين ترويعاً لهم وتشريداً لخلفهم «!!» «انتهي». هذا أسلوب واحد من المتدينين في مواجهة مفكر مجتهد، لم يتجاوز، ولم يسيء إلي الدين بشهادة القضاء، وأحسب أن هذا هو دأبهم إلا قليلاً ممن هدي الله!! وأفكر في الأمر وأفكر: كيف يتبعون هذا النهج الذي لا يمت لهدي القرآن بصلة؟ إن الهدي القرآني يختلف كلية. وكثيرة هي الآيات التي عرضت موقف الرسول من معارضيه- امتثالا لأمر ربه- وكان موقفاً زاخراً بالرفق والبشاشة: تأمل الرسول الكريم- أيها القارئ العزيز- وكان يملك الحق كل الحق ولا شيء غير الحق، ومع ذلك يأمره الله بالحسني في آيات تفيض سلاما ومصالحة.. اسمع أمر الله لرسوله: 1- «قل هاتوا برهانكم إن كنت صادقون» «النمل 64». 2- «قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون» «سبأ 25». 3- «وإنا أو إياكم لعلي هدي أو في ضلال مبين» «سبأ 24». في الآية الأولي يأمر الله رسوله بأن يطلب من المشركين البرهان علي آرائهم، بالرغم من علمه بأنها الباطل كله ولا برهان عليها. وفي الآية الثانية يبدو الرسول علي خلق عظيم بما أدبه ربه فيضع وصف «الجرم» علي ماجاء به من الإسلام، ولفظ «العمل» علي ما هم عليه من الشرك «!!». وفي الآية الثالثة يترفق بهم غاية الرفق، ولا يطعن عزتهم- وهي عزة بالإثم- فلا يعلي ما جاء به علي ما عندهم، بل يساوي بين حقه وباطلهم، ويضع الاثنين في موضع الاحتمال فيقول: قد أكون أنا أو أنتم علي هدي أو في ضلال مبين! أو إنسانية، وأي عظمة! فإذا كان هذا هو القرآن وآياته وتوجيهاته، فمن أي المصادر استقي هؤلاء المتدينون هذا الفحش في القول والإسفاف في الخطاب؟!!. وجدتها!! وأخيراً وقعت علي جواب السؤال الحائر.. وصحت كما صاح «نيوتن» وجدتها!! فقد وقع في يدي كتاب اسمه «دفع الشبهات عن السنة النبوية».. تأليف/ أ.د عبدالمهدي عبدالقادر عبدالهادي- أستاذ الحديث بكلية أصول الدين، جامعة الأزهر- قال في مقدمته: «هذا كتاب رددت فيه علي الشبهات التي تثار ضد السنة النبوية، قدمت فيه شبهات أعداء السنة علي الأحاديث، كل حديث علي انفراد، هذه الأحاديث التي حرصت الأمة علي الحفاظ عليها والعمل بها، وذلك علي مدي حياة هذه الأمة». وأورد المؤلف اثنين وعشرين حديثاً تثور الشبهات حول صحتها، وشرفها وأكد ضمها.. وكان منها: حديث إرضاع الكبير.. وحديث إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه.. حديث الإسراء والمعراج ومراجعة موسي لنبينا.. حديث بصبصة الصحابة في الصلاة.. حديث ملك الموت وأنه ذهب إلي موسي لقبض روحه، فضربه موسي علي عينيه ففقأها!.. وغيرها من الأحاديث «أو بالأصح الروايات المنسوبة للنبي» التي تصدم العقل، ولاتوافق نص القرآن وروحه.. أما الرواية العجيبة.. التي تنسب للرسول «عليه الصلاة والسلام» قولاً فظيعاً، والتي ربما يفسر لنا توجه بعض علماء الدين إلي اختيار أكثر الألفاظ فحشاً في مخاطبة مخالفيهم، فقد كتب عنه المؤلف ما يلي: حديث من «تعزي بعزاء الجاهلية فأعضوه ولا تكنوا». معني الحديث: في هذا الحديث الشريف يعلمنا رسول الله «صلي الله عليه وسلم» ماذا نفعل مع من يفعل أفعال الجاهلية، بعد أن أكرمنا - سبحانه وتعالي- بالإسلام، فمن تعزي بعزاء الجاهلية لمناه علي ذلك، بل وزجرناه عن ذلك. وعزاء الجاهلية أن يقول الشخص عند نزول المصيبة كلام الجاهلية، مثل: وامصيبتاه، أو لماذا أنا المصاب. أو: من لنا بعدك.. إلي غير ذلك.. وعزاء الجاهلية أيضاً أن يفتخر الشخص بقبيلته أو أبائه. ولقد حرم الإسلام كل ذلك، وشرع لمن نزلت به شدة أن يقول كلمات الرضا بقضاء الله، إنا لله وإنا إلي راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها. وأن لا يعتز بقبيلته أو آبائه، وإنما يعتز بإسلامه، وإنه من أمة الإسلام فمن خالف ذلك وتعزي بعزاء الجاهلية فهذا الحديث يعلمنا أنوبخه، وذكر «عليه الصلاة والسلام» صورة من صور التوبيخ وهي «أعضوه ولا تكنوا»، أي اشتموه شتماً صريحاً ومعني «أعضوه» أي قولوا له: «أذهب فاعضض ذكر أبيك» «مائة علامة تعجب من عندي»، ومعني «لا تكنوا» أي لا تستعملوا أسلوب الكناية فتشتموه شتماً خفيفاً«!». وهكذا من فعل فعل الجاهلية، أو انتسب إلي الجاهلية وبخناه، وزجرناه عن ذلك بشتم صريح، فقد أكرمنا الله بالإسلام «!». ويقول الشيخ الدكتور في النهاية: هذا حديث في غاية العظمة للشخصية المسلمة «!!». مكارم الأخلاق وأقول: هذه والله أقوال تذهب بالألباب! كيف بهؤلاء الذين ينتسبون للإسلام يهملون أدب القرآن «قطعي الثبوت»، ويأخذون بهذا اللغو الوارد في مرويات هي أصلاً «ظنية الثبوت». وكما قال الشيخ شلتوت: «في اتصالها بالرسول شبهة فلا تفيد اليقين».. فإذا ما خالفت القرآن يجب أن يحكم عليها بالبطلان. هل يعتقدون أن هذه الأحاديث الموضوعة تقضي علي القرآن؟.. ألا ساء ما يفهمون وبأي عقل يصدقون النبي الكريم يصدر عنه هذا الفحش؟! إن تصديق هذه الروايات خور في العقيدة، وإشاعتها تخريب للإسلام، وإساءة بالغة للرسول الرءوف الرحيم، الذي ما بعث سباباً ولا لعاناً، وإنما قال: «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق». ألا ما أصدق الحكمة الهندية «في ظلام دامس يمضي أولئك الذين يعبدون الجهل، وفي ظلام أشد دماسة يتخبط أولئك الذين يطمئنون نفساً بما لها من علم».