أستأذن القارئ الكريم أن نمزج التهنئة بهذا الشهر المبارك بجرعة من الأمل تفتح ثقبا للضوء في جدارالتخلف الأسود الذى أحاط بأمتنا في عصرها الراهن. ونود مع جرعة الأمل هذه أن نبدأ بتوصيف الحالة، وتوصيف الحالة يقتضينا أن نتحدث في محيطين: الأول: هو محيط الذات، بقوته وضعفه، وصعوده وهبوطه، وعزته وهوانه. والثانى: هو محيط الآخر الذى نعيش معه ومعرفة المشترك الذى يربط علاقة الذات بالآخر ومدى تأثير وتفاوت تلك العلاقة فينا وعلينا إيجابا وسلبا، لأننا كأمة لا نعيش في جزر معزولة وإنما نحن جزء من هذا العالم، ونشكل جغرافيا أهم مناطق الثروة والجذب، كما نشكل تاريخيا رافدا حضاريا هاما أثر في ذلك العالم وساهم في بناء حضارته، كما أننا نشكل خمس سكانه من حيث العدد، وإذا كان بعضنا معجبا بالآخر إلى حد الهيام والعشق، والبعض الآخر كارها له إلى حد الغضب والمقت، فإن كلا الأمرين مظهر للاهتمام البالغ، ومن ثم فتحديد الداء ومعرفة أسباب العلة في المشترك بيننا أول المفاتيح في مراحل الشفاء واستعادة العافية. توصيف الحالة، نحن والعالم من نحن؟ : نحن أمة المسلمين، حالتنا اليوم يرثى لها، فأغلب بلادنا محتلة بالانظمة الدكتاتورية التى لا تعرف غير القهر والقبضة الحديدية في تعاملها مع الشعوب ، والشعوب أغلبها ساكن ومستكين وخانع ، تقدم لحامها الطاعة وتأخذ في مقابلها الهوان ، وأحزاب المعارضة مهترئة وليس لها رؤية واضحة، والحاضر بائس والمستقبل مظلم، وعدد القفراء والعاطلين عن العمل في زيادة مستمرة ، ونهب الأموال العامة لا يقف عند حد ولا يردعه رادع، والسرقات تعدت حدود الأرض والسكان لتصل إلى الجغرافيا والتاريخ، أعنى الأرض والحاضر والمستقبل ، أما الماضى فجزارة العلمانية ودكاكين الماركسية الساقطة كفيلتان بتشويهه وتنفير الناس منه حتى تعيش الأمة حالة الاستلاب الحضارى في أحط تجلياتها من حيث الفوضى والتمزق واللامسؤولية واللا أخلاق، فهى أمة يراد لها أن تنفصل عن الماضى وتعيش الحاضر البائس والمستقبل المظلم، إحابط عام علي جبين الجماهير الغفيرة والسواد الأعظم من كل المسلمين، فبعد أن كنا يوما من الأيام نحن العالم الأول، دار الزمن وتحول عنا ، وتغير الحال فصرنا العالم الثالث أو الرابع أو الخامس أو قل ما شئت في ذيل القائمة البشرية التى تعيش كالقطط الضالة على فضلات حضارة الآخرين، وكنا في القرن الماضى نعانى من الاحتلال، فصرنا في القرن الحالى نعانى من الاحتلال والاختزال والاختلال ، فالدولة أختزلت فى شخص واحد اسمه الحاكم، ملك أو رئيس، والحكومات اختلت عقولها ولم تعد ترعى في شعبها إلاً ولا ذمة، وبدلا من الحرص على تحقيق مطالب الشعب، ورعاية حقوقه، باعت حكوماتنا كل الشعب وتبرعت بثروته غازا وبترولا لأعدائها وأصدقائها معا ، ولم تعبأ بصراخ الملايين من الفقراء والكادحين والمطحونين، بينما تحولت ثروة البلاد لتملأ جيوب وخزائن الاقطاعيين الجدد، وعاشت الأمة قرن التقهقر بامتياز "القرن العشرين" ولعلى أستعير عبارة شاكر النابلسى " عشنا نصف قرن من التقهقر حيث خسر العرب في النصف الثاني من القرن العشرين أكثر مما ربحوا، ولو توقف الزمن عند العام 1950 لكان حال الأمة أفضل بكثير مما كانت عليه. فعلى الصعيد السياسي كانت هناك أحزاب فحلت، وكانت صحافة معارضة فأغلقت، وكانت مجالس نيابية فزيفت، وكان مفكرون أحرار فسجنوا وعذبوا وقتلوا، وكان الحكام يخافون الشعوب فصاروا يخيفون الشعوب. وفي المجال الاقتصادي كنا في النصف الأول من القرن العشرين جياعا فصرنا في النصف الثاني جياعا وعراة، وكنا فقراء جياعا فصرنا أغنياء جياعا، فقد ذهبت أموالنا التي منحتها لنا السماء من تحت الأرض دخانا لحروبنا المجانية، فقد خسرنا في عشر سنوات (1981 - 1991) فقط 950 مليار دولار، وكنا فقراء متخلفين فصرنا أغنياء متخلفين. وفي المجال الثقافي تراجعت الثقافة العربية حتى أصبح العرب في الدرجة السفلى من السلم الثقافي الشرقي، ويقل ما ينشر في الدول العربية مجتمعة من بحوث علمية وكتب عما ينشر في إسرائيل، وأهدرت دماء المثقفين وأعدم بعضهم وسجن الكثير منهم".انتهى ولعلى أضيف ، وكان لدينا في القرن الماضى مثقفون ينقدون الملك ويهددون أركان النظام، فصار لدينا مثقفون يعبثون بعقول الشعوب، يفرغونها من طاقة الغضب المقدس، ويدغدغون غرائزها إلى حد الإثارة، ويتعاملون مع إنساننا وكأنه لم يرث عن أبويه آدم وحواء غير خصائص الذكورة والأنوثة، ويزحمون صحفهم وأجهزة إعلامهم بتوافه القضايا وأخبار الراقصات ومغامرات المشاهير، ويتبنون سياسة السلطة في إلهاء الشعوب، فهم عونها وعيونها وذراعها الطويلة في تشويه الخصوم، وأقلامهم جاهزة للتبرير والتزوير والتدوير والتحوير. فكيف ننطلق ونتحرر من قيودنا أومن القيود التى كبلونا بها في ظل هذا الواقع المأزوم، ونحن أمة لا حضور لها ولا تأثير وليس لها دور أو تميز ، وهى في الزمن الراهن تستقبل ولا ترسل ، وتأخذ ولا تعطى ، وتتأثر ولا تؤثر ، تلك هى معطيات الواقع بكل ما فيه من حسرة ومرارة ، فكيف يتفق ويتسق هذا الواقع مع مدلول النصوص القرآنية ومنطوقها وهى التى تتحدث عن نصر المؤمنين والتمكين لهم ، وثمة مجموعة من الأسئلة يطرحها العقل بإلحاح كيف ينطلق الإسلام لإنقاذ العالم من خلال حالة المسلمين المتأزمة وتسلط الآخرين علينا وسيطرتهم على كل مقاليد الأمور لدينا ؟ وهل لهذه السيطرة وهذا التسلط من فكاك ؟ وهل يمكن تجاوز هذه المحنة والخروج منها واستعادة العافية الإسلامية مرة أخرى ؟ أم أن الأمورستؤول إلى فناء الأمة ويستبدل بها غيرها بعد سقوطها إلى الهاوية ، أو سقوطها في البعد الثالث كما يقول العلامة الدكتور جمال حمدان ، حيث يرى أن من يتخلف لن يظل مستمرا في تخلفه إلى الأبد، فهو إما أن يتمرد على هذا التخلف، وينفض عن نفسه غبار هذا السكون وينهض، وإما أن يسقط إلى الهاوية ويجرى عليه قانون الاستبدال " { وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ }محمد38 هذا على مستوى الأمة وفي محيط الذات ، فماذا عن محيط الآخر الذى نعيش معه ويتحكم فينا ويحول حكامنا وحكوماتنا إلى مجرد جندى لحماية مصالحه فى بلادنا أو ساعى البريد الذى يحمل رسالته إلى الشعوب دون أن يكون من حقه فتح الرسالة أو معرفة مضمونها إلا أن يكلفه المرسل بتفيذ ما فيها ، وما هو المشترك الذى يربط علاقة الذات بالآخر ومدى تأثير وتفاوت تلك العلاقة فينا وعلينا إيجابا وسلبا. إن قادة الفكر ورواد الفلسفة في القرن العشرين يجمعون على ظهور مأزق حضارى كارثى مسترك بيننا وبينهم ، وسبب هذا المأزق هو أيديولوجيات اعتنقها البشر وروجوا لها حتى انتشرت وسادت في العصر الحديث ، وكانت نتيجتها وثمرتها إنسان الحيرة والقلق والاكتئاب ، إنسان لا يأخذ من الدنيا بقدر حاجته، وإنما يأخذ منها بقدر شهواته ، ولا يكتفى بمجرد الأخذ منها وإنما يمتد طموحه وتطلعه بدوافع الطمع والجشع إلى أن يأخذها كلها وفى أقصر زمن ممكن وبأقل تكلفة، وبكل وسيلة ممكنة مشروعة أو غير مشروعة، كما يريد إن ملكها أن يستأثر بها وحده، ويحتكرها لنفسه فقط ، سعار من الشهوات يحركه، والشهوات كالنار لا تشبع أبدا، وإنما تشتد سعارا ولهيبا كلما وجدت وقودا، ولذا فهو لا يشبع في استهلاكه ويبحث عن الرفاهية والثراء بأمور يصنعها هو، ويفتعلها هو، فهو الذى يحتكر، وهو الذى يصنع أزمة السلع، وأزمة الاقتصاد ،وأزمات الحروب العبثية وهو الذى يختلق بؤرا للصراع وبؤرا للحاجة، وهو الذى يشيع الرعب بشئ ما، في محيط ما، لخلق أسواق لمنتجاته بأعلى الأسعار كما حدث في موضوع الإنتراكس "الجمرة الخبيثة" وإنفلونزا الخنازير وغيرها من الموضوعات، وهو الذى يسخر الأبحاث العلمية من حيث النتائج لخدمة أغراضه ومنفعته حيث تخضع لشروط الممول، وهو الذى يصيغ السياسة الكبرى في كيفية إعداد الشعب إعدادا جيدا للعبودية – من اليمين أو من اليسار- عن طريق الشاشة الصغيرة وهو يبتسم في سعادة وغفلة! ومن غرور النهضة نشأ افتراض أن "العلم" التجريبي والرياضي يمكن ان يجيب عن كل المشكلات ويحلها. وأن الوسائل الهائلة التي خلقها ستضمن السعادة، واشترك النظامان الرأسمالى والماركسى في نفس هذا اليقين الزائف . لكن العلم التجريبي والتكنولوجيا فشلا في أن يقودا وحدهما الإنسانية بنجاح. وتولد الرغبة في الهروب من مجتمع بلا معنى، نوعا من الجنون أو التدمير، أو على الأقل نسيان العالم وأنفسنا كما يقول جارودى وهكذا، ولد نوع جديد من البشر، إنسان لم يعد ذا إنسانية ، لم يعد ذا عواطف يحب ويكره ويتعب ويستريح ويحقق ذاته، وإنما هو إنسان محسوب ، كل مشاعره الداخلية تجنح إلى من يبثها فيه بوسائل مصنعة، إنه الإنسان المبرمج. وهكذا يعيش العالم مرة أخرى من جديد عصر "فساد التاريخ"، المتميز بسيطرة التقنيات العسكرية الساحقة لإمبراطورية لا تحمل أي مشروع إنساني قادر على إعطاء معنى للحياة والتاريخ. إحباط شامل على جبين الإنسان، بل إحباط شامل على جبين العلم ذاته الذى حولته الحضارة المادية الحديثة إلى إله تدخر في مخازنها من منتجاته وإبداعاته ما يزيد على عشرة أطنان من المتفجرات لكل إنسان على ظهر الكوكب الأرضى. ولقد أجاد الفيلسوف الألمانى هايدغر مارتن (1889 1976) " Martin Heidegger " عميد فلسفة القرن العشرين حين وصف هذا العصر بقوله " إنه عصر يبدو كقصر مشيد شامخ في منظر كئيب ،سادته يعانون الأرق والقلق والاكتئاب وغرور القوة ، بينما خدامه يعانون من الجهل والجوع والمرض ومذلة الخوف " . هذ هو النصف الفارغ من الكوب وهو يشكل أحد أهم الهموم لكل مثقف ومفكر ومهتم. فما هو لون النصف المملوء من الكوب، وكيف الخروج من هذا المأزق الحضارى الراهن ؟؟ ذلك هو موضوع المقال القادم بمشيئة الله إن كان في العمر بقية . رئيس المؤسسة الأسترالية للثقافة الإسلامية ورئيس إذاعة القرآن الكريم في أستراليا [email protected]