«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المختار الشنقيطي:رجل من القرون الفاضلة عاش بيننا
نشر في المصريون يوم 04 - 07 - 2010

افترض معي إمكان انبعاث عالم من القرن الثاني أو الثالث، ليجد نفسه معنا في القرن العشرين.. وحاول أن تتخيل كيف يكون حاله، من حيث علمه الشمولي الأثري الرباني، ومن حيث تعشقه الفائق للسنة والاتباع، ومن حيث الصراحة التي لا تعرف الالتواء، والصدق الذي لا يتجمل بالمعاريض، ويكره - بتطرف - الكذب والمداجاة، ومن حيث اندهاشه مما يدور حوله، وعدم متابعته لإيقاعه السريع، وانزواءه منه!
تخيله في بساطته من حيث هيئته: ثوبه الذي قلّما يكون مكويًّا كما ينبغي، ونعله شديد البساطة، ورائحته الطيبة دائمًا، ومشيته الهينة الرزينة.
تخيله ومعلوماته عن القرن العشرين الذي انبعث فيه تساوي صفرًا.. وأنه - بذلك - سيكون كأهل الكهف، الذين لم ينتبهوا لمّا بعثهم الله من مرقدهم إلى أنهم نهضوا بعد رقاد في بيئة لا تعرف أمثالهم، ولا تقدر فعالهم، وأنهم يتعاملون بنقود نادرة الوجود، صارت أثرًا من الآثار، وبطل التعامل بها ربما من ثلاثة قرون، وأن البضاعة غير البضاعة، والنقود غير النقود، والناس غير الناس.
تخيل أخلاقه من جهة عفة اللسان، والحرص في العبارة، والانشغال بالأهم، والبعد عن صغائر الأمور وسفسافها.
تخيل نهاره الذي يقضيه معلمًا أو متعلمًا منذ الفجر حتى منتصف الليل، ويكون ما بين ذلك قائمًا.
تخيله في غيرته على الإسلام، واحتراق أعصابه؛ لأدنى انتهاك لسنة من السنن..
تخيله في حرصه على نفع طلابه بعلمه الجم، أو بنصائحه الأبوية الصادقة.
تخيل صعوبة واقعه حين يتعامل مع أبناء القرن العشرين المشاغبين غير الجادين، وغير المؤسسين علميًا وخلقيًّا وسلوكيًّا ودعويًّا.
حرك خيالك وذاكرتك، وقدّر معي كم يعاني مثل هذا الرجل المبارك، في أوساط لا ترحّب كثيرًا بالبركة، ولا تريدها، ولا ترجوها، ولا تدير وجوهها إلا نحو أصالة وعمرو دياب ‍‍والسح الدح إمبو!
هذا هو الأستاذ الشيخ محمد المختار الشنقيطي - عليه رحمات الله ورضوانه - العالم الوليّ الزاهد الفذ؛ أحسبه والله حسيبه ولا أزكّي على الله تعالى أحدًا..
عالم بمائة عالم: عفة لسان، وتركًا لما لا يعني، وذكرًا دائمًا، وعلمًا دافقًا، ونصحًا منيرًا.. رجل لم تر عيني مثله؛ قبله رحمه الله ولا بعده..
اختار - طائعًا - أن يكون جوهرة خبيئة مكنونة في قاع التجاهل وسوء التقدير، في أمة تحتفل بعبسلام النابلسي، وكشكش بك، ونابليون ابن بونابرته! تجاهلوه فتجاهلهم مثل كثير من الخيرين في هذه الأمة، الذين أداروا ظهورهم لمغريات كثيرة، اعتقدوا - وحق لهم - أن ما عندهم أجلّ وأعظم من أن يبتذلوه من أجلها.
يقول لي الفتى: رأيته قبل أربع وثلاثين سنة، وجلست إليه تلميذًا في الجامعة الإسلامية ثلاث سنين، فنفعني الله به ما لم ينفعني بغيره، على الإطلاق، رغم أنني - قبله وبعده - رأيت من العلماء كثيرين، لكن لم يبلغ أحدهم شأوه..
فبفضل الله تعالى، ثم بفضل علمه، ونصحه، وتفرّده العجيب، تحوّل القلب مائة وثمانين درجة إلى جهة الالتزام وحب العلم الشرعي، وقت كانت شرّة الشباب تتجه إلى حب الدنيا، وطلب "القشرة الفالصو" التي تلمع كالذهب وليس تحتها إلا الخَبَثُ، والحجارة التافهة التي لا تساوي في سوق الخير نقيرًا.
رأى الفتى "علماء ودعاة" يحرصون بهمة عالية على صرف الإنسان عن الدين، وتقبيح العلم الشرعي إليه: بلسان حالهم، بسلوكهم، بصدهم طلابهم عن الخير!
لا تعجب قارئي الكريم فهذا - والله - موجود، اكتشفت بعدُ أنه كان منهم بسبب قلة العلم، لستر الضحالة العقلية، "والهيافة العلمية" التي تغطيها سلاطة اللسان، وطول رِجْل البنطلون، وقصر الهمة العلمية.
يريد الله تعالى أن ينتزع الفتى مكرهًا من هذا الجو، إلى رحاب طيبة المباركة، وكانت في هذا الوقت بكرًا.. لم تتبرج كالآن بالمباني الشاهقة، والجسور الممتدة، والشوارع الفسيحة، وكانت تتمتع بروحانية عجيبة تأسر القلب والروح.
انتقل إلى حيث الشنقيطي: العلم الدقيق، والخلق الرفيع، والحرص على أن يسقي أبناءه كل ما يطيق، وأكثر مما يطيقون!
لماذا أكثر بكتاباتي وكلامي من الإلحاح على فكرة الجلوس إلى العلماء والأخذ عنهم؟
إن طالب العلم يتعلم من أحوال الشيخ كلها، من سمته وهديه، وصمته ونطقه، من غضبه ورضاه، من تدفقه وتأنيه، من نظره وإغضائه..
وهذا ما نفع الله به الفتى الجموح، طالب فائق دراسيًّا، موهوب بعشر مواهب، ينفخ فيه من حوله ليصيِّروه كالبالون، ثم ينفثئ فجأة أمام الجبل الشامخ، ويتأكد - بشيء من إنصاف ابتلاه الله به - أنه من قبل لم يسمع علمًا، ولم يقابل أحدًا، ولم يستفد معشار ما ينبغي لمثله أن يستفيد.
ويهديه الله تعالى - رغم تمرده، ورغم نفخ الشيطان في سَحْره - للجلوس في استكانة بالغة، وصمت عميق، وعطش شديد، ليغترف من البحر، فتتحول نفسه، وتنقلب رؤيته، وتصاغ أولوياته واهتماماته بشكل معاكس تمامًا لما كان عليه نُشِّئ..
إن الله قد يسوق عبده للخير رغمًا عنه - منةً منه وتفضلاً - ويدوم جلوس الفتى الصامت أمام الشيخ الذي لا يكف عن التدفق والانهمار غيثًا يحيي الله به القلب، ولا ينازع الشيخَ شيخ آخر في قلبه واهتمامه، ولا يبالي بالأسماء الكثيرة المتاحة حوله آنذاك، والتي نَسختها من قلبه شمسُ الشيخ الساطعة، التي تأفل دونها كل الكواكب.
يقول عنه الشيخ الشاعر الأديب محمد المجذوب في كتابه "علماء ومفكرون عرفته": (ثقافته موسوعية، حتى ليخيل إليك وهو يحضّر تقريراته منها، أنها تخصصه الذي لا يكاد يعدوه، شأنه في ذلك شأن الأسلاف من كبار العلماء، الذين كانوا يرون في العلوم الإسلامية وحدة عضوية، لا يغني منها واحد عن غيره، وأهم محصوله من هذه العلوم هو التفسير، والسنة، ثم الأنساب والرجال، ثم التاريخ - خاصة تاريخ العرب في الجاهلية وصدر الإسلام - ثم اللغة وعلومها وآدابها، وهو أحد القلائل الذين كنت أعجب بذخيرتهم من محفوظات الشعر العربي، الذي كان مولعًا به وبقرضه).
في إنصات وتركيز شديدين يجلس الفتى في مواجهة الشيخ (ليشرب منه) ويسهو مرة فيعتمد بيديه على الطاولة، ويمس بمرفقيه "فتح القدير" فيواجهه الشيخ بعاصفة من الغضب:
ألا تقدّرون العلم؟! ألا تحترمون الكتاب الإسلامي؟! أتعتمد بيديك على فتح القدير.. فتح القدير؟ ما هذا؟! انتبه لنفسك.
ذات مرة غضب الشيخ، وسبق لسانه بكلمة لا يريدها لطالب من طلابه، فغرق في العرق، وتلجلج، وامتصها سريعًا بذكاء شديد، وأخذ - كالمذنب - يعتذر لتلميذه المرة بعد المرة، كأنما أتى بأكبر الكبائر وأعظم الموبقات، وكان عهد الفتى بأساتذة في كلية الشريعة العريقة متألهين، منتفخين، سبّابين من طراز عال، دخل أحدهم المدرج مرة ليسب أكثر من ألف طالب، ويصفهم بأنهم حمير، لأن أحدهم أراد الدخول بعد سيادته - على جهله المنفوخ أو انتفاخه الجاهل - والشنقيطي يذوب خجلاً، ويسيل عرقًا، لسبق لسانه بكلمة لم يردها!!
حج الفتى معه ومع عدد من علماء الجامعة عام 98ه، ومنهم الشيخ ابن باز، وأبي بكر الجزائري، وحماد الأنصاري، وآخرون، فوجده فذًّا في كل شيء؛ على بساطته، وانزوائه، وانشغاله بنفسه.
كان ينكر ذاته إنكارًا عجيبًا، ويرى نفسه أقل الناس علمًا، وأهونهم قدرًا.. وكثيرًا ما كان يكرر على مسامع الفتى وأصحابه: "صار أمثالنا علماء لما مات العلماء! " رغم أن دروسه في الحرم النبوي كانت عقب الصلوات الخمس كلها، خمسة دروس يومية في علوم مختلفة، فضلاً عن محاضراته الصباحية في الجامعة؛ لذا فلم يترك مؤلفات غير كتابين اثنين: شرح سنن النسائي، ورسالة أخرى صغيرة اسمها: الجواب الواضح المبين في حكم التضحية عن الغير من الأحياء والأموات. أما ما شرحه شفويًّا فقد انتهى الشيخ من تفسير القرآن الكريم في الحرم النبوي أكثر من 10 مرات، كما انتهى من شرح البخاري ومسلم مرات، وشرح سنن الترمذي، وسنن النسائي، وسنن أبي داود، والموطأ، ومات قبل أن يتم شرح ابن ماجه؛ بجانب تدريسه فتح القدير للإمام الشوكاني في الجامعة.
كان أمة، رحمه الله كفاء ما بذل وعلم ودرّس وربى.
كان ينظر للتربية التقليدية والشهادات - وهو ربيب المحاظر (المحاضر، جمع محضرة، وهي المدرسة التقليدية التي تعلم علوم الشريعة المختلفة متونًا وكتبًا وتقاليد) - بكثير من عدم المبالاة، بسبب ما صادف من أصحاب ألقاب طنانة لا يحفظ أحدهم مائة بيت من الشعر، فضلاً عن كتاب الله، فضلاًعن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يسميهم: (حَمَلة شهادات الزور المكتوبة بماء الذهب) ولعله محق في الغالب الأعم، ولعله هو - رحمه الله - السبب في روح (السَّرْبَعَة) والجموح الذي يندفع به الفتى الذي لم يكن أنبه تلاميذ الشيخ شأنًا.. و لم يكن الشيخ يعيره التفاتًا، لم يحدثه طيلة ثلاث سنين، ثم في آخر اللقاءات قال له كلمة واحدة - وبشكل يبدو عرضيًّا - ألهبت في وجدان ذلكم الفتى حمى العمل والعمل والعمل..
وكأن الفتى ما علم كلمة عابرة تبدو بهذا الأثر، وتعطي هذا الزخم، وتشحن القلب بشحنة هو دائمًا بها في سباق مع نفسه وقدراته وراحة بدنه، لعشرين سنة، وربما ثلاثين، وربما ما تبقى في العمر من السنين!
كان فطريًّا بدويًّا في صراحته، ويكرر دائمًا: "إن الله تعالى قد ابتلاني بالصراحة، فلا أعرف المجاملة"..
عن شيء من أدائه العلمي، وطريقته في التهيئة العلمية لأبنائه، وعن أثره في ضبط مسيرتهم يقول ابنه الشيخ محمد الداعية المعروف، (محمد بن محمد المختار الشنقيطي) وكان زميلي في الجامعة أربع سنين، نفع الله به:
..... أسأل الله أن يجزي الوالد عني كل خير، وأحمد الله - تبارك وتعالى - أن هيأه لي وسخره لي، وما كان العبد ليصيب ذلك لولا فضل الله. كان - رحمه الله - حريصًا إلى أخذنا إلى مجالسه في الحرم، وحضور درسه في البيت، وكان يأخذني منذ الصغر معه لدرسه بالحرم، حتى إنني ربما أنام - من صغري - في حجره في الدرس؛ لأنه كان يدرّس بعد الفروض كلها، إلا العصر أحياناً يكون عنده درس في البيت، فلما بلغت الخامسة عشرة أمرني أن أجلس بين يديه، وأن أقرأ عليه دروس الحرم، فابتدأت معه في سنن الترمذي، وتعرفون بداية مثلي في جمع من الناس في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم! ولكنه أراد أن يشحذ همتي، وكان يحسن الظن فيّ - أسأل الله العظيم إلا يخيب ظنه فيّ - فابتدأت بقراءة سنن الترمذي، ثم الموطأ، وختمته عليه، ثم سنن ابن ماجة، وتوفي ولم أكمله عليه، وأسأل الله أن يكتب له أجر إكماله. هذا بالنسبة للدرس الأول بعد المغرب.
ثم يأتي طالب ويقرأ عليه درسًا في اللغة، ثم طالب يقرأ عليه درسًا في الفقه، وكنت أحضر معه.
وبعد العشاء كنت أقرأ عليه صحيح مسلم، حتى ختمه، وابتدأ بالختمة الثانية، وتوفي في آخرها، ومن غريب ما يذكر أنه توفي عند باب فضل الموت والدفن في المدينة!
وأذكر أنه في آخر هذا الدرس دعا، ولم تكن عادته الدعاء في هذا الموضع، وقد قرأت عليه هذا الحديث من البخاري ومسلم قرابة أربعة مرات، ما أذكر أنه دعا إلا في آخر مجلس من حياته، وكان صحيحًا ليس به بأس، فبعد أنه ذكر الفضل في الموت في المدينة وأقوال الصحابة، قال: وأسأل الله ألا يحرمنا ذلك، فأمن الحاضرون، وكان تأمينهم لافتًا للنظر كتأمين المصلين في الحرم في الصلاة من كثرتهم.
ثم في الفجر كان يقرأ حتى تطلع الشمس..
وأما بعد صلاة الظهر فكنت أقرأ عليه صحيح البخاري حتى ختمته، ثم ابتدأتُ قراءة ثانية، وتوفي ولم أكملها عليه.
وأما بالنسبة لقراءتي الخاصة عليه، فقرأت عليه في الفقه متن الرسالة حتى أكملته، وشيئًا كثيرًا من مسائل كتاب بداية المجتهد، وكنت أحررها، وكان رحمه الله واسع الباع في علم الخلاف، إلا أنه من ورعه كان لا يرجح.
وأما بالنسبة لعلم الأصول فقرأت عليه، لكن كان رحمه الله لا يحب كثرة الجدل والمنطق التي يقوم علم الأصول، فكان إذا دخلت معه في المنطق يقول: قم، يطردني ؛ لأنه كان يرى تحريمه وهو قول لبعض العلماء. وإن كان اختيار بعض المحققين ومنهم شيخ الإسلام التفصيل كما أشار إلى ذلك الناظم بقوله:
وابن الصلاح والنّواوي حَرّمَا **** وقال قومٌ ينبغي أن يُعْلَمَا
والقولة المشهورة الصحيحةْ **** جوازه لكامل القريحهْ
ممارسِ السنة والكتابِ **** ليهتدي بها إلى الصوابِ
المقصود أن أُدلّل على أني ما استوعبت معه جانب الأصول من ناحية النطق والخلافات، وأتممته على بعض المشايخ الذين كان لهم باع فيه، وأسأل أن يكون فيها تعويض لما لم أقرأه على الوالد.
أما المصطلح فقرأت عليه بعض المنظومات، منها البيقونية والطلعة، وقرأت عليه تدريب الراوي.
وأما عن السيرة فقد كان له درس في رمضان فيه البداية والنهاية، وكان في التاريخ شيء عجيب، حتى إن الشيخ محمد العثيمين يقول: كان والدك يحفظ البداية والنهاية.
وكان له باع في علم الأنساب، والحقيقة أنني قصّرت فيه ولم آخذه عنه، ويعلم الله ما كان يمنعني منه إلا خشية أن الإنسان يأتي ويقول : هذه القبيلة تنتمي إلى كذا، فيتحمل أوزار أنساب أمم هو في عافية منه، لكن الحمد الله، في الفقه والحديث والعلوم التي أخذتها عليه غناء عن غيرها.
ومن عجائبِ ما يذكرُ الشيخ محمد عن والدهِ - شيخي محمد بن المختار - ما حدّث به أحد تلاميذ الابن نقلاً عن الإمامُ: محمّدٍ العُثيمين– برّدَ الله مضجعهُ – أنَّ والدهُ كانَ يحفظُ كتابَ "البدايةِ والنهايةِ" للإمام ِ ابن ِ كثير ٍ - رحمهُ اللهُ - كاملاً، وقد كرّرَ شيخُنا
نقلَ هذا الكلام غيرَ مرّةً، وأخبرني الشيخُ أنَّ والدهُ كانَ من كِبارِ الضابطينِ لعلمِ التأريخ ِ والنّسبِ، وذكرَ شيئاً من ذلكَ أيضاً العلاّمةُ: بكرُ بنُ عبدِ اللهِ أبو زيدٍ رحمهُ اللهُ رحمة واسعة، في كتابهِ "طبقاتُ النسّابينَ" وغيرهُ.
ومن فضائلهِ جلَدهُ وصبرهُ، فقد أوتيَ صبرًا عظيمًا على ما ابتلاهُ اللهُ بهِ من الأمراض ِ وتقلّبِ الأحوال ِ، وبقدر ِ ما كانَ يعظمُ بهِ البلاءُ ويشتدُّ عليهِ الكربُ، كانَ يزدادُ في الثباتِ صبرًا واحتسابًا، من ذلكَ أنّهُ كانَ يكرهُ البنج والمخدّرَ في الجراحةِ، فحصلَ عليهِ حادثٌ اقتضى جراحة ً فامتنعَ من قبول ِ البنج ، وأجريتْ لهُ العمليّة، وخيطتْ جلدة ُ رأسهُ وهو في كامل ِ وعيهِ، ولم يزدْ على أنْ كانَ يذكرُ اللهَ تعالى، ولهُ في هذا أخبارٌ عجيبةٌ..
رحم الله الولي الصالح محمد المختار الشنقيطي – أحسبه والله حسيبه - الذي مات قبل ستة وعشرين عامًا، في 29 من جمادى الأولى 1405" عن ثمانٍ وستين سنة، وأسأله عز وجل أن يجمعني به في مستقر رحمته، وأن يجزيه عني - خاصة - خير ما يجزي به عبدًا عالمًا صالحًا.. اللهم آمين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.