(1) يشوقنى أن أتصفح قواميس اللغة العربية من وقت لآخر بحثا عن صحة نطق أو هجاء كلمة معينة، أو التحقّق من معناها واستعمالاتها المختلفة.. هذه عادة قديمة لها فوائدها، ولكنها لا تخلو فى حد ذاتها من متعة.. حتى أننى لا أملك مقاومة رغبة طارئة من فتح قاموس اللغة إذا وقع تحت نظرى بالمصادفة.. والحقيقة أن اللغة العربية ضمن كل المؤسسات الثقافية عندنا قد أصابها العطب.. نتيجة الإهمال والاستخفاف، وضعف التعليم فى المدرسة والجامعة.. وللأسف الشديد فى الأزهر أيضا، الذى كان فى يوم من الأيام معقلا للغة العربية.. وكانت النتيجة فاجعة مفجعة فقد شاع الخطأ على ألسنة المتحدثين بالعربية وشاعت الأخطاء على أقلام الكُتّاب بشكل فاحش خصوصا فى الصحافة والإعلام .. والأمثلة على ذلك لا حصر لها.. تصدمنى حتى أكره متابعة القراءة أو متابعة مشهد متلفز تكثر فيه الأخطاء اللغوية. لقد حدّثت نفسى مرةً أن أغلق أذنيّ بقطعة من القطن قبل الذهاب إلى صلاة الجمعة حتى لا أستمع إلى أخطاء النحو الفاحشة التى يقع فيها الخطيب، فيحرّف الأحاديث النبوية وآيات القرآن الكريم عن معانيها الصحيحة بسبب هذه الأخطاء .. وتكمن العلّة هنا فى نقص تعليمه وقلة جهده.. بحيث لا يدرك خطورة عدم استخدام علامات الرفع والنصب فى اماكانها الصحيحة، ومن ثَمَّ يصبح المفعول به (على يديه) فاعلا والفاعل مفعولا به.. ولكنك لا تتوقّع أفضل من هذه النتائج البائسة فى نظام أصبح رجال الأمن يختارون الأئمة والوُعّاظ، ويجدون الوزير الذى يوقع على قوائم اختياراتهم، بلا مناقشة .. ومن هذا القبيل فى مجال العبث باللغة، أنك لا تجد أجرأ على اقتحام هذه الأخطاء ببلادة حس عجيبة من المتحدثين فى الإعلام المنطوق.. ولست أدرى كيف تنشأ هذه الأخطاء ثم كيف تنتشر كالموضة الجديدة أو كالوباء فى كل مكان.. المسألة تحتاج إلى دراسة, وبحث هو بالتأكيد فوق طاقتى بل فوق طاقة أى شخص بمفرده.. (2) من أعجب هذه االمُلوِّثات اللغوية الحديثة التى انتشرت كالوباء إسقاط كلمات: هذا وهذه وهؤلاء وأولئك وكل أسماء الإشارة واستبدالها بلفظة واحدة هى [هكذا] فمثلا بدلا من عبارة " ماذا قال هذا الرجل..؟" أو" ما رأيك فى هذه القضية" تسمع للعجب العجاب: عبارة: " ماذا قال هكذا رجل..؟" و "ما رأيك فى هكذا قضية.." ويبدو أن بلادة الحس اللغوي.. قد أصابت المستمعين والمتلقّين أيضا.. نتيجة للمناخ الذى أصابه التلوث اللغويّ العام.. ولذلك فإننى أشك فى قدرة كثرة من الناس على الفهم.. لأن اللغة من الناحية النفسية العقلية هى وعاء التفكير.. ويستحيل استقامة التفكير ووضوحه إلا إذا صُبّ فى قوالب لغوية سليمة.. ولذلك يرى علماء النفس أن ضعف التفكير وتشوّشه عند شخص ما هو نتيجة حتمية لضعف لغته وتشوّشها.. وتكون الكارثة الحقيقية عندما يتصدّى صاحب التفكير المشوّش هذا لتعليم الناس أو تثقيفهم أو الحكم على الأمور .. وأنا لا أعفى من هذا أحدا ولا فئة من الناس.. فمن بين هؤلاء ممن لاحظت وقوعهم فى أخطاء لغوية غير لائقة بمراكزهم ووظائفهم: وزراء وقضاة وشعراء ومحامين.. وأكاديميين بعضهم رؤساء أقسام أو عمداء فى كليات الآداب والدراسات الإنسانية ... أذكر أننى تناقشت يوما مع الدكتور (عمار على حسن) حول هذه المشكلة، فكان بين ما ساقه من أٍسباب وراءها أننا فى حقيقة الأمر نستخدم فى حياتنا لغتين لا لغة واحدة: العربية الفصحى والعامية .. وأننا عندما نتحدث بالعربية الفصحى نترجم فى عقولنا ما تعودنا على فهمه باللغة العامية، وهذه صعوبة لا يستهان بها، خصوصا بالنسبة لمن يرتجل فى كلامه محاضرا كان أو خطيبا .. وهو كلام صحيح ومقبول إلى حد كبير.. ولكنه لا يفسر أبدا أن يخطئ كاتب تقرير فى كتابة تقاريره.. وأن يخطئ محاضر فى قراءة محاضرته المكتوبة، فهنا بالتأكيد نقص فى لغته وعجز فى معرفته اللغوية بالنحو والصياغة العربية.. وأحيانا قصورشديد فى قاموس مفرداته اللغوية.. وفى النهاية هو تعبير عن الكسل والاسترخاء والاستهانة وعدم الرغبة فى بذل الجهد و الاتقان.. (3) أذكر عندما أثير موضوع اختراق المكالمات الهاتفية بين الناس من جانب الجهات الأمنية.. و ارتفع السؤال: هل يعتبرهذا الاختراق جريمة قانونية أو أخلاقية..؟! وعندما ظن الناس أن استخدام الهاتف المحمول بدلا من الهاتف الأرضى يمنع هذا الاختراق.. صرح وزير الأمن متهكما.. بأن هذا ظن خاطئ وأن لدي وزارته أجهزة إليكترونية متقدمة.. [للتنصّت] على هذه الهواتف بسهولة.. حينذاك برزت عندى مشكلة اصطلاحية جديدة لم تكن موجودة فى الاستخدام اللغوي من قبل.. وبدأت أسأل نفسى هل المصطلح الصحيح هو [تنصّت] أم [تصنّت].. بينما شُغل آخرون بكيفة التغلب على مشكلة الاختراق الهاتفي تحت أي مصطلح... وسمعت من أحد المهتمين بهذه القضية أن الهاتف المحمول يمكن أن يتحول إلى جهاز إرسال (أوتوماتيكيّ) إلى أي جهة تريد الاختراق.. إذا كان لديها أجهزة إليكترونية معينة.. تتحكم بها فى جهازك المحمول.. وأنت جالس فى (أمان الله) تتحدث فى البيت، خالى الذهن، مع أفراد عائلتك أو أصدقائك وأقاربك .. ويقول صاحب هذا الاكتشاف أنه بحث واجتهد ووجد أن أفضل سبيل لإعاقة إختراق الهاتف المحمول هو أن يضعه فى [حلّة] وهذا اللفظ المصري معناه قِدْر الطعام أو إناء الطبخ، بشرط أن تضع غطاء القدر على القدر، ولا تتركه مكشوفا فى الهواء لتتسلل إليه الموجات (الكهرومغناطيسية) المعادية...! تطرّقت إلى هذه القصة بشيء من التفصيل لكي ألفت النظر إلى حقيقة واقعية إذا نظرنا إليها بمنظور شمولي.. بمعنى النظرإلى جملة ما يجرى فى مجتمع ما، تجبره ظروف القمع السلطوي وأساليب التجسس المستحدثة التى تمارسها سلطة ما، فى تعاملها مع أفراد هذا المجتمع، مستهينة بكرامتهم وخصوصياتهم، وحقوقهم الإنسانية، فى حياة آمنة مطمئنة بين ذويهم وأصدقائهم.. ثم كيف تتحول جهود أفراد هذا المجتمع المهدد بالاختراق أو [التصنّت/التنصّت] من جهود إبداعية خلاّقة لتحسين حياتهم وحياة مجتمعهم وتقدّمه، إلى مجرد محاولات دفاعية لمواجهة العدوان الزاحف عليهم من السلطة الجائرة.. فى كل مجال من مجالات حياتهم اليومية.. كأن عمل هذه السلطة (بدلا من توفير الأمن والأمان) للناس، هو أن تنغّص عليهم حياتهم... (4) من بين الألفاظ أو المصطلحات التى كنت أبحث عنها مؤخرا فى معاجم اللغة مصطلح المنضّب نسبة إلى [اليورانيوم] وكلمة القرض والقضب.. وقرأت خلال البحث ما أضحكنى وما أتعسنى فى الوقت نفسه.. من ذلك: أن هناك كلمة (القُرضوب) والقرضوب هو اللصّ. قال الأصمعيّ: "وأصله قطع الشيء.. فيقال: قرضَبْتُه = قطعته".. ثم يعقّب صاحب القاموس قائلا: "والذي ذكره الأصمعيّ صحيح، فالكلمة منحوتة من كلمتين: من قَرَضَ وقَضَبَ، ومعناهما جميعاً: القطع". (5) نحن نعرف، وقد سمعنا بالتأكيد، أن أمريكا فى حربها على العراق قذفت بأطنان من اليورانيوم المنضب على الشعب العراقى مما تسبب فى تلويث أرضه ومائه ونباتاته بمواد مسرطنة.. وتسبب ولا يزال فى سقوط آلاف الأطفال العراقيين قتلى أو فرائس للأمراض القاتلة.. و[هكذا] فعلت إسرائيل فى حربها على الشعب الفلسطيني فى غزة العام الماضى.. وكلمة منضّب على وزن [مفعّل] إشتقاقا من الفعل الثلاثى نَضَبَ .. يقال على البئر أو النهر أو أى وعاء فيه ماء أو سائل عندما يجف ما يحتوى عليه من ماء أو سائل.. واللفظ نفسه عندما ينتقل إلى الاستعمال المجازى يمكن أن ينطبق على المجتمعات المبتلاة بأنظمة قمعية، لا تكف عن امتصاص عناصر الفاعلية والمقاومة فى شعوبها، ومن ثم برز مصطلح (تجفيف المنابع) التى يستمد منها الشعب حياته الروحية وقدرته على المقاومة والصمود أمام الطغيان والاستبداد.. وبهذه العملية بصبح الشعب بالفعل [منضّبًا] .. ولكن ينبغى أن نفهم أن الشعب المنضب لا يبرز إلى الوجود إلا تحت نظام حكم يقوم بعملية التنضيب، وأنسب وصف لمثل هذا النظام هوالمصطلح العربى البليغ الذى أشرنا إليه "القٌرضوب" والذى من معانيه اللصوصية والنهب والسطو.. والسطو هنا حقيقى ومجازيّ أيضا .. أما السطو الماديّ فيدخل فيه نهب الأرض والثروة وأموال الناس وملكياتهم وهذا خارج عن إطار اهتمامنا فى هذه المقالة.. أما السطو المعنوي فيدخل فيه امتهان كرامة البشر، وانتهاك حقوقهم الانسانية، وتزوير إرادتهم فى الانتخابات العامة، وحرمانهم من حقهم القانوني فى المثول أمام قاضيهم الطبيعى بدلا من المحاكم العسكرية.. وخطفهم واحتجازهم فى المعتقلات مددا غير محدودة بدون محاكمة.. وتلفيق التهم إليهم.. وأبشع من كل هذا: التعذيب المنهجي البشع الذى ذهب ضحيته أناس كثيرون كان أحدهم وأحدثهم هو الشاب السكندري خالد سعيد.. الذى رأى شهود العيان عملية خطفه وضربه بقسوة ضارية أدت إلى مقتله، ثم إلقاء جثته فى الطريق العام.. ولم يصدق أحد، ولن يصدق ألف تقرير طبي مزوّر.. فالناس يعلمون أن مثل هذه التقارير شيء عادي ومألوف لغسل يد الشرطة من تهمة القتل العمد.. عندما يكون المتورط فيها بعض عناصر الشرطة.. ولذلك انطلقت المظاهرات فى القاهرة والاسكندرية احتجاجا على هذه التجاوزات البشعة، وكان حصاد الشرطة أربعين متظاهرا أُخذوا إلى المعتقلات..! (6) لن يصدّق الناس أيضا قصة لفافة المخدرات التى ادعى ضابط الشرطة أن خالد ابتلعها بينما كان أفراد من الشرطة يطاردنه فانسابت محتوياتها فى معدته وقتلته.. فى حين أن وجه الشاب الممزق الدامى يصرخ بحقيقة أخرى لا يستطيع إنكارها إلا أعمى أو مكابر.. قارن بين صورة خالد سعيد الطبيعية البريئة وصورته بعد مقتله وأنت ترى الحقيقة.. لقد شاهدت مئات الصور مثل صورة خالد لشبان بسنويين فى عمر الزهور، قتلهم الصرب ومثّلوا بوجوههم البريئة ببشاعة وغلّ لا نظير لهما.. كان لدىَّ فرصة لمقارنة صورهم قبل القتل وبعده.. كان قلبى يدمى وأنا أبحث حقائق حرب البوسنة بسبب هذه الصور.. ولم يحملنى على ذلك سوى أننى تحريت أن أكتب للتاريخ وأن أسجل فى كتابى شهادة منصفة لا أتجنَّى فيها على أحد.. حتى تكون شهادة لى لا عليّ يوم أن أقف بين يدي الله يوم الحساب.. أعرف أيضا أن أنظمة قمعية مماثلة فى أندونيسيا خلال عهد الدكتاتور سوهارتو .. كان رجال الأمن يخطفون الشبان من بيوتهم أو من أي مكان.. ثم يعذبونهم فى المعتقلات حتى الموت ثم يلقون بجثثهم فى الغابة بعد إطلاق رصاصة فى صدر الضحية، ثم يزعم تقريرالأمن: بأن المنكود تمكن من الهرب من سجنه فتعقبته الشرطة إلى مكمنه فى الغابة، ثم أطلقت عليه عيارا ناريا عندما شرع فى مقاومة السلطات... (7) أما تهمة حيازة مخدرات فهى تهمة شائعة وجاهزة لكل من يعارض النظام المستبد.. أو حتى يمارس الدعوة البريئة المخلصة لله.. ولا تخجل الشرطة أن تهدد بها أشرف الناس وأحسنهم خلقا وأعظمهم علما، مثل الشيخ الدكتور عمر عبد الكافى.. وقد سجلت هذه الواقعة الأستاذة الإعلامية الشهيرة كريمان حمزة فى كتابها الموسوم بعنوان: "لله يازمرى" تحكى فيه قصة كفاحها وخبرتها مع إدارة التلفزيون المصري خلال ثلاثين سنة تقول: أن رجال الأمن هدّدوها إن لم تكف عن استدعاء الشيخ فى برنامجها الديني فإن لديهم تهمة جاهزة له [بالزِّنى وحيازة المخدرات، وأن لديهم شهودا جاهزين عند الطلب]... ويبدو أن الشيخ وصلته الرسالة واضحة (فأخذها من قصيرها) ، وحمل كتبه على كتفيه واستخار الله.. ثم رحل عن وطنه إلى منفاه الاختياري...! ولم يكن الشيخ عمر وحده هو المستهدف بين الدعاة فقد كانت قائمة الممنوعين من الكلام ومن دخول التفزيون قائمة طويلة يتصدرها دعاة كبار من وزن الشيخ محمد الغزالى والدكتور يوسف القرضاوي والدكتور عبد الصبور شاهين.. وكل من كان يُخشى من نفاذ شخصيته ووفرة علمه وحضور بديهته وقدرته على التأثير والإقناع.. ألم أقل لك أنها سياسة مروعة لتجفيف المنابع والوصول إلى معادلة: [الشعب المنضّب والنظام القُرضوب]. لك الله يا خالد سعيد.. ظُُلِمْتَ حيًّا يابُنيّ وظُلمت ميًتا.. وندعو الله أن يغفر لك و أن يتقبلك مع الشهداء الأبرار وأن يثبّت أبويك المحزونين على فراقك بالصبر والإيمان... [email protected]