كنا صغارًا نلعب في الشارع، تتباين أخلاقنا، كما تتباين ألعابنا، نلهو في الليالي المقمرة فقط، فرحين بضوء القمر، الذي يجعل ليلنا شبه نهار، كانت لا تكفينا فترة النهار عصرًا وحتى أفول الشمس، فنكمل المسيرة ليلاً، في الليالي المقمرة، حتى ينشطر الليل، نسرح، نمرح، نفرح، نترح، نتقاسم فرحتنا، وأحيانًا نتقاسم عراكنا، كما نتقاسم أدوار اللعبة التي نلعبها.. وكانت ألعابنا بسيطة من اختراعنا أو ورثناها من الأطفال السابقين لنا، "انزل ولا تزلزل"، "الحَجَلة"، "هِيو بِيو"، "المُرجِيحة"، "الاستغماية"، وأخيرًا "الكورة الشراب"، التي سحبت يومها البساط، من الألعاب السابقة، وأصبحت سيدة الألعاب، والمسيطرة على الشارع أطفالاً وشبابًا، ممارسةً، ورجالاً وشيوخًا، فرجةًً وتشجيعاً.. كان كل طفل يضفي على الشارع لغته، وتربيته، وقاموس بيته، فالمؤدب منا تسمعه يتلفظ بألفاظ مؤدبة، والسفيه "يبخ" في وجوه الأطفال سفهه الذي ورثه عن أبيه وأمه، و"البين بين"، تارة مع هؤلاء وتارة مع أولئك، فمع المؤدب "ابن ناس"، ومع قليل الحياء "ابن جزمة قديمة".. هكذا كانت لغة الشارع تفرض على من فيه أن يكون كذلك، بين مؤدب، وسفيه، ووسط بينهما، حسب من يتعامل معه، وكأنه يتخذ من شطر بيت الشاعر قاعدة في التعامل مع الناس: "وفي الشر نجاة حين لا ينجيك إحسان".. أي يتعامل بالحسنى فإن لم تجدِ مع صاحبها فبعكسها.. حصيلة الألفاظ التي اكتسبناها من الشارع، عرفتنا ثقافة الشارع، التي هي ضرورة لا بد منها، لكسب المعرفة، والتعامل مع الناس، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، وقليل ما كان الشر يقال بفجاجة، أو الكلمة القبيحة تسمع ببذاءة.. حتى إنني لم تمر علي مثلاً كلمة لها دلالتها "غير المؤدبة" الشعبية المعروفة، ورئيس تحرير كبير - عرف عنه الضحك وروح الفكاهة والسخرية - يستدل بها في مجلس كنا فيه، وأنا شاب أشرفت على الثلاثين، ثم سألني: هل تعرفها؟ فأنكرتها معرفةً وسماعاً من قبل، ولم أعرف مقصدها إلا منه فقط، مع أنها معروفة لدى ثلاثة أرباع الشعب المصري كله، وتعرفها الحارات والشوارع، وذلك لأنني لم أسمعها من القائمين على تربيتي في البيت، أو ممن لعبت معهم في الشارع، الذي كان إلى حد ما يؤمن بالعيب و"الاختشا"، ويحافظ على الذوق العام، ولا يخدش حياء المارة بكلمة سوء. هذه الأيام أقرأ كلمات أقل ما توصف ب"قبيحة" و"بذيئة"، و"سفيهة"، و"قليلة أدب"، في تعليقات وتعقيبات على موضوعات أو مقالات، في مواقع وصحف إلكترونية، تجعلك تكاد تتقيأ، من قراءتها وفحشها وقلة أدبها.. قاموس الشتائم القذر ينشره "القذرون" وسفيه القول يحرص عليه "السفهاء من الناس"، في كل مواقع التواصل الاجتماعي، بشكل لم تعتد عليه الأذواق السليمة، ولم تألفه العقول الكريمة، وتستنكفه الأفهام الحليمة، وأصحابه يذيعونه وينشرونه فرحين به، وكل منهم ينتقي من الألفاظ أبشعها قذارة، وأشدها سفالة، وأرذلها سفاهة؛ ليرد بها على من لم يعجبه رأيه، أو من يخالفه في معتقده وفكره، وذلك نصرة لحزبه، أو تأييدًا لتياره، أو عزةً بالإثم لنفسه، أو إرضاءً لشيطانه. حتى أن الفضائيات كادت تقع فيما وقع فيه أصحاب المواقع وصفحات التواصل، وقد سمعت لمستشار ما وهو ضيف على إحداها، يلمح بكلمة (…. أمك) ورأيته وسمعته يخاطب هذا وذاك وذلك من المثقفين والإعلاميين والمحامين، بكلمات "أنت يالا، يا روح أمك، يا عيل، يا أهبل"، ولولا الملامة لقال الألفاظ التي تخدش الحياء وتخرج العاقل عن شعوره، والحليم عن وقاره وأدبه.. إن رسول الإنسانية صلى الله عليه وسلم قال: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، أي أنه أتى والأخلاق الكريمة موجودة فبعث بالرسالة ليتممها ويثبتها في نفوس الناس، وكانت أولى كلماته صلى الله عليه وسلم وهو يطأ أرض المهجر (المدينةالمنورة): "أيها الناس، صلوا الأرحام وأطعموا الطعام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا جنة ربكم بسلام"، كما سجل لنا ذلك الحبر اليهودي يومها "عبد الله بن سلام"، الذي أصبح بعد ذلك من كبار الصحابة الأجلاء. من الذي أوصلنا إلى الانحدار الأخلاقي والتنصل عما حضنا عليه الدين الحنيف وكل دين سوي، ومجتمع عربي أبي؟ وما الذي جعلنا نصل إلى "سفساف الأخلاق"، وما الذي جعل أخلاقنا الحسنة تودعنا هكذا، أو نودعها هكذا إلى غير رجعة، ونشعر أننا كفناها، وكبرنا عليها أربعًا؟ سؤال أطرحه عليكم كما طرحته على نفسي ولم أحرِ له جوابًا. ******************************* ◄◄قالت الحكماء ◄وإذا أصيب القوم في أخلاقهم // فأقم عليهم مأتمًا وعويلا دمتم بحب عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.