رغم محاولات كثيرين خاصة إسرائيل إجهاض ثورة 14 يناير في تونس, إلا أن هذا البلد العربي واصل صموده وضرب نموذجا جديدا يحتذى في حل أزماته السياسية بعد أن فجر الشرارة الأولى للربيع العربي. ففي 22 أغسطس, أعلن راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة الإسلامية, التي تقود الائتلاف الحاكم في تونس, قبوله مبادرة الاتحاد العام للشغل، التي تنص على ضرورة تشكيل حكومة غير حزبية، مع الإبقاء على المجلس التأسيسي "البرلمان", وذلك فيما اعتبر بوادر انفراجة كبيرة على طريق إنهاء الأزمة السياسية المحتدمة في البلاد على خلفية اغتيال المعارض محمد البراهمي. ونقلت وكالة الأنباء التونسية عن الغنوشي قوله للصحفيين عقب لقاء هو الثالث في مدة وجيزة مع أمين عام الاتحاد العام التونسي للشغل حسين العباسي إن "النهضة" قبلت أن تكون مبادرة الاتحاد منطلقا لحوار يبدأ في القريب العاجل بين الأغلبية والمعارضة, إلا أنه أكد أن استقالة الحكومة الحالية لن تحدث إلا بعد انتهاء الحوار الوطني المرتقب باتفاق شامل يضمن استكمال المسار الانتقالي وتنظيم انتخابات حرة ونزيهة. وأضاف الغنوشي "نحن قريبون جدا من التوافق، وسنبدأ في حوار وطني سريع"، مشيرا إلى اقتراحات قدمتها "النهضة" للعباسي ليعرضها على المعارضة. ومن جانبه, قال العباسي إن الغنوشي قبل صراحة بمبادرة الاتحاد كمنطلق لحوار وطني، موضحا أنه سيعرض مقترحات النهضة على المعارضة. وأضاف "على السلطة والمعارضة الوعي بدقة المرحلة وأن الوضع الاقتصادي والاجتماعي في تونس لا يحتمل المزيد من الانتظار". وقابلت أحزاب معارضة تصريحات الغنوشي بتفاؤل مشوب بالحذر, ونقلت وكالة "فرانس برس" عن القيادي في الحزب الجمهوري التونسي أحمد نجيب الشابي قوله إن قبول النهضة بمبادرة الاتحاد يمثل أرضية للعودة إلى الحوار الوطني، لكنه طالب الحركة بموقف دقيق بخصوص تعويض رئيس الحكومة الحالي بآخر مستقل. وبدوره, قال القيادي في جبهة الإنقاذ التونسية المعارضة عثمان بلحاج إن جبهة الإنقاذ قبلت بمبادرة اتحاد الشغل لإنقاذ البلاد من الأزمة الحالية، فيما اعتبرت الجبهة الشعبية, وهي فصيل ضمن "جبهة الإنقاذ" أن النهضة ربما تناور لأن الحوار الوطني المرتقب قد يستغرق أشهرا. وفي المقابل، رحب حزب التكتل المشارك في الائتلاف الحاكم بموقف الغنوشي، معتبرا ذلك لحظة لمصالحة وطنية حقيقية وانفراجا للأزمة في البلاد. أما حزب المؤتمر الشريك الثالث في الائتلاف الحاكم فقال إنه مستمر في الدفاع عن تشكيل حكومة وحدة وطنية جديدة. ورغم أن المعارضة العلمانية في تونس اكتسبت جرأة بعد عزل الرئيس المصري محمد مرسي وكانت تسعى لتكرار هذا السيناريو مع خصومها "الإسلاميين", إلا أن الغنوشي كان له رأي آخر. فمعروف أن المعارضة العلمانية طالبت بحل الحكومة والمجلس التأسيسي معا بحجة إخفاقهما في تأمين المسار الانتقالي والأمن عقب اغتيال البراهمي, لكن النهضة وعددا من شركائها في الائتلاف الحاكم وخارجه عرضوا تشكيل حكومة وحدة وطنية سياسية مع تحديد مدة عمل المجلس التأسيسي كي ينتهي من إقرار مشروع الدستور الجديد ، واستكمال الهيئة المستقلة للانتخابات، والقانون الانتخابي، قبل 23 أكتوبر القادم, الذي يوافق مرور عامين على أول انتخابات بعد سقوط نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي. وبعد أسابيع من المفاوضات الشاقة, أعلن الغنوشي قبول "النهضة" مبادرة اتحاد الشغل, التي تتضمن حلا وسطا بين مطالب كل من المعارضة و"النهضة ", حيث طالبت بتشكيل حكومة جديدة غير حزبية مثلما تطالب المعارضة, إلا أنها أبقت على المجلس التأسيسي, وهو أحد شروط "النهضة" لحل الأزمة. ويبدو أن الغنوشي حقق أكثر من هدف بقبوله المبادرة, فهو ضمن حياد الاتحاد العام للشغل, الذي يضم في عضويته قرابة نصف مليون تونسي، ما يجعله قادرا باعتباره أكبر نقابة للعمال في تونس على شل الحياة في البلاد, إذا ما قرر الدخول في إضراب عام. كما أن الغنوشي أحبط مبكرا محاولات المعارضة العلمانية تصعيد الأمور باتجاه الإطاحة بكافة المؤسسات الشرعية المنتخبة التي جاءت في أعقاب انتخابات 23 أكتوبر 2011 , والتي يتمتع فيها الإسلاميون بالأغلبية. ورغم أن الظاهر على السطح أن قبول الغنوشي بمبادرة اتحاد الشغل بمثابة موافقة على تحويل الحكومة الحالية, التي تقودها النهضة", إلى حكومة تصريف أعمال، إلا أن الحقيقة أن الحوار الوطني حول تشكيل حكومة جديدة سيستغرق على الأرجح شهورا وقد تجرى الانتخابات العامة , المقررة أواخر العام الجاري, قبل انتهائه, وبالتالي فإن النهضة ضمنت استمرار الحكومة الحالية, التي تعبر من وجهة نظرها عن الشرعية, وتستند إلى أغلبيتها في المجلس التأسيسي. ويبدو أن هناك أمورا ساعدت "النهضة" في إحراج المعارضة العلمانية وإجهاض مخططها لاستيراد "السيناريو المصري", من أبرزها تأكيد الجيش التونسي مرارا عدم تدخله في الشأن السياسي, بالإضافة إلى قدرة "النهضة" على الحشد أكبر من خصومها. ولعل إلقاء نظرة على تطورات الأزمة في تونس يظهر أيضا حنكة "النهضة" في احتواء الأمور, فمعروف أن تونس تعرضت لاضطرابات على مدى الأسابيع الأخيرة بعد أن اغتال مسلحون يعتقد أنهم "سلفيون متشددون"، النائب المعارض محمد البراهمي في 25 يوليو الماضي, وهو ثاني سياسي علماني يقتل خلال ستة أشهر بعد اغتيال المعارض اليساري شكري بلعيد في 6 فبراير الماضي. وطالبت المعارضة العلمانية على الفور بحل المجلس التأسيسي بحجة أنه فشل في ضمان الانتقال الديمقراطي، كما طالبت بحل الحكومة, بحجة أنها فشلت في ضمان الأمن بعد اغتيال البراهمي وبلعيد, لكن حركة النهضة وأحزابا أخرى رفضت الطلب بشدة، وعرضت حكومة وحدة وطنية مع استئناف أعمال المجلس التأسيسي لاستكمال مشروع الدستور الجديد والهيئة المستقلة للانتخابات قبل 23 أكتوبر القادم. وفيما نظمت أحزاب المعارضة سلسلة من الاحتجاجات لإنفاذ مطلبها بحل الحكومة والمجلس التأسيسي، نظم الائتلاف الحاكم بدوره حشودا أكبر في تونس العاصمة, تعبيرا عن تمسكه بالمؤسسات المنبثقة عن انتخابات 23 أكتوبر 2011 . وفي 18 أغسطس, التقى الغنوشي أمين عام اتحاد الشغل حسين العباسي للمرة الثانية خلال أسبوع، لاستكمال المشاورات الرامية إلى تجاوز الأزمة السياسية, التي أعقبت اغتيال النائب البراهمي. وكان اتحاد الشغل عرض في 29 يوليو الماضي مبادرة للتسوية تضمن استمرار المجلس التأسيسي وتشكيل حكومة جديدة غير حزبية. كما التقى الغنوشي في باريس في 15 أغسطس رئيس حركة نداء تونس المعارضة الباجي قائد السبسي، التي تقول بعض استطلاعات الرأي إنها قد تكون منافسا للنهضة في الانتخابات القادمة. وقالت النهضة في بيان لها إن الهدف من اللقاء كان تهدئة الأجواء ووقف التصعيد في الشارع، بينما قالت حركة نداء تونس إن قائد السبسي تمسك بمطلب المعارضة, المتمثل في تشكيل حكومة "كفاءات" غير حزبية. ويبدو أن قرار رئيس المجلس التأسيسي مصطفى بن جعفر تجميد أعمال المجلس التأسيسي إلى أجل غير مسمّى لحين دخول الفرقاء في مفاوضات على قاعدة المبادرة, التي قدمها اتحاد الشغل، ساعد أيضا في تهدئة الأمور. وكانت "النهضة" أعلنت موافقتها "بتحفظ" على قرار تعليق أعمال المجلس التأسيسي, الذي اتخذه بن جعفر في 6 أغسطس، وقالت الحركة في بيان أصدره رئيسها راشد الغنوشي :"رغم تحفظنا على هذه المبادرة من الزاوية الشكلية والقانونية، إلا أننا نأمل أن تشكل حافزا للفرقاء السياسيين للجلوس إلى طاولة الحوار والوصول إلى الحلول التوافقية المطلوبة في هذه المرحلة الحساسة التي تمر بها بلادنا، والتي لا تخلو من مخاطر أمنية وتحديات اقتصادية جمة". وأكدت الحركة استعدادها للتفاعل مع المبادرات المطروحة للخروج من الأزمة الراهنة في إطار احترام إرادة الشعب التي عبر عنها في انتخابات حرة نزيهة، وضمن الحرص على عدم إطالة المرحلة الانتقالية. ودعت إلى الحفاظ على المجلس التأسيسي باعتباره السلطة الأصلية ومرتكز النظام الديمقراطي الوليد الذي ارتضاه التونسيون، وشددت على ضرورة استئناف المجلس لأعماله في أقرب وقت ممكن، بالنظر إلى طبيعة المهام والمسئوليات الموكلة إليه، مع التشديد على ضرورة التسريع في وتيرة عمله وتحديد سلم أولويات واضحة لأشغاله. واقترحت الحركة خطة عمل للمجلس التأسيسي في المرحلة القادمة يتم بمقتضاها تشكيل الهيئة المستقلة للانتخابات في ظرف أسبوع من استئناف المجلس لأعماله، والمصادقة على مشروع الدستور الجديد والقانون الانتخابي قبل سبتمبر المقبل، والاتفاق على إجراء الانتخابات العامة قبل نهاية السنة الجارية. وتحدث بيان "النهضة" حينها عن وجود "مخطط انقلابي مترابط الحلقات يهدف إلى إحداث فراغ سياسي في البلاد وتفكيك المؤسسات القائمة ونقض ما تم إنجازه في المرحلة الانتقالية، في محاولة يائسة لاستنساخ تجربة الانقلاب في مصر". وكان بن جعفر, أحد شركاء "النهضة" في الائتلاف الحاكم, دعا الأحزابَ السياسيةَ إلى التوافق وإنهاء الأزمة المتفاقمة في البلاد في أعقاب اغتيال البراهمي، معلنا في 6 أغسطس تعطيل عمل المجلس لفسح المجال أمام إجراء حوار وطني. ورحب ممثلون عن المعارضة العلمانية بتعطيل عمل المجلس، معتبرين ذلك خطوة في الطريق الصحيح. كما رحب الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل بقرار تعليق أعمال المجلس التأسيسي واعتبره "خطوة جاءت في الوقت المناسب لزحزحة الوضع وتغييره". ورغم أن تونس تعاني أوضاعا أمنية هشة منذ الإطاحة بنظام بن علي في 14 يناير 2011, حيث سارعت جماعات سلفية جهادية لحمل السلاح على الأرض في المناطق الصحراوية جنوبي البلاد الواقعة في المثلث الحدودي مع ليبيا والجزائر، وفي المناطق الغربية على طول الشريط الحدودي مع الجزائر, إلا أن هناك تحليلات كثيرة تربط بين جريمة اغتيال البراهمي والمخطط الصهيوني, الذي يستهدف إجهاض الربيع العربي, خاصة أن الجريمة تزامنت مع الأزمة المتفاقمة في مصر, واستعداد المجلس التأسيسي للمصادقة على تركيبة الهيئة العليا للانتخابات، ومناقشة فصول الدستور التونسي الجديد.