(1) صفّق جمهور قاعة الاحتفالات الكبرى فى جامعة القاهرة للرئيس الأمريكي باراك أوباما أربعين مرة تصفيقا حارا، وهو يوجه للعالم المسلم خطابا كان يُراد به أو المظنون فيه أن يكون خطابا تاريخيا يبشر بمرحلة جديدة فى التعامل مع مشكلات هذا العالم، مختلفة عن مرحلة الرئيس بوش، الذى شن عليه حربا عسكرية وسياسية وإعلامية هى الأعتى والأبشع فى تاريخ العلاقات الأمريكية مع الإسلام .. جرى هذا فى اليوم الرابع من يونية سنة 2009 .. حاول أوباما بهذا الخطاب إصلاح ما أفسدته إدارة بوش فى العلاقات الدولية، ومع الإسلام والمسلمين بصفة خاصة.. فما الذى حدث على أرض الواقع تحت إدارة أوباما خلال العام المنصرم...؟! لا شيء سوى المزيد من التورط فى حرب أفغانستان.. والتراجع عن وعوده كلها وما أعلنه بخصوص الصراع العربي الإسرائيلى.. كأن كل ماكان مطلوبا منه هو محاولة تحسين صورة أمريكا فى العالم المسلم [على مستوى الكلام والتصريحات فحسب] .. وهذا بالضبط ما توقعته من أوباما قبل أن يلقى خطابه بل قبل أن يعلن اختياره للقاهرة كمنطلق لخطابه إلى العالم المسلم .. فقد كتبت فى جريدة(المصريون) بتاريخ الإثنين العاشرمن مايو2009 مقالا بعنوان [زمن الفقاعات الكبرى] أصف حقيقة مهمة أوباما وما أطلقه من تصريحات أثناء حملته الانتخابية وبعدها.. فقد كنت أعتقد يقينا إن أوباما يطلق كل هذه الوعود البراقةعلى مستوى الخطاب السياسي فقط .. حيث قلت بالحرف الواحد: " يعنى هى عملية تزييت للتروس السياسية الخشنة المفروض أنها تمهّد لتحريك العجلة السياسية فى أرض الواقع .. ولكنى أعتقد أن أوباما لن يتحرك أبعد من هذه النقطة كثيرا .. ولا يهم هنا ما يحمله فى مخيّلته وطموحاته وأفكاره الخاصة ..المهم هو ما تخططه له المؤسسات التى تمتلك فى يدها قوة المال وقوة الاحتكارات الصناعية .. والتى لها السيطرة الحقيقية على صنع القرارات المصيرية فى أمريكا.. وليست هى بالتأكيد المؤسسات الرسمية التى نظن ... لن يفعل أوباما كثيرا ولن يستطيع أن يعالج حتى الأزمة المالية الإقتصادية فى بلاده إذا كان أولئك الكبار لا يزالون يرون أن استمرارها يعمل فى جانب مصالحهم الإحتكارية الكبرى فى العالم ... سوف يبقى أوباما فى البيت الأبيض ليطلق شعارات التهدئة والتفاهم ما شاء له الكبار أن يفعل .. ولتبقى الأوضاع على الأرجح مجمدة إلى حين... ثم تطير الفقاعة وتنفجر وينتهى عصر أوباما..!!" فى هذا المقال أكدت بصفة خاصة على أن القضية الفلسطينية لن تتحرك على يد أوباما خطوة واحدة إلى الأمام فى طريق الحل، بل أظنها ستتراجع خطوات إلى الوراء.. وقد حدث.. وأبرز دليل على ذلك موقف أمريكا فى مجلس الأمن من إنكار كل ما أجمعت عليه شعوب العالم من أن إسرائيل ارتكبت جريمة كبرى بهجومها المسلح على سفن مدنية فى المياه الدولية وقتل تسعة أو أكثر من المدنيين وجرح العديد منهم وإلقاء القبض عليهم وسرقة أموالهم ومتعلقاتهم الشخصية واختطافهم إلى أراضيها ومصادرة المعونات الإنسانية التى كانت تحملها سفنهم إلى الشعب الفلسطيني المحاصر فى غزة .. إعتبرت الولاياتالمتحدة [تحت إدارة أوباما] أن هذه لقرصنة الدولية والأعمال الإجرامية حقا مشروعا لإسرائيل للدفاع عن نفسها...! هذا المنطق المنحرف هو السائد اليوم فى الخطاب السياسي الأمريكي، ولقد كان الشاعر العربي حكيما عندما أنشد هذا البيت من الشعر: " لآ تلْجأنّ إذا ظُُِلمْتَ لمنطِقٍٍ :: فهناك أضْيعُ ما يكونُ المنطقُ ".. (2) كل المؤشرات تدل على أنه بالرغم من وعود أوباما فإن خطط الليكود فى عهد نتنياهو وليبرمان تسير بخطى حثيثة، وأن الأوضاع فى القدس وفى فلسطينالمحتلة تتدهور بأسرع مما نتصور.. وأنّى لها أن تتحسن وهناك رجال مثل رئيس السلطة، بالتآزر مع أنظمة عربية أخرى ضاق أفقها وفقدت ضميرها، وأصبحت ضالعة فى التآمرمع إسرائيل فى إحكام الحصار على غزة .. بأمل أن تثور الجماهير المحاصرة الجائعة لإسقاط حكومة حماس وإنهاء المقاومة... أوباما إذن لن يسعى لحل القضية الفلسطينية .. ولا يستطيع .. لا بالمفاوضات المباشرة ولا غير المباشرة .. ولن يستطيع أوباما أن يحرز أي تقدم فى الحرب الأفغانية ولا حتى فى حل الأزمة المالية الأمريكية الخانقة.. (وأقولها آسفا على هذا الرجل) سوف يخرج من البيت الأبيض فاشلا يجرجر أذيال الخيبة.. ليقال للسود حذار بعد اليوم أن تتطلعوا إلى هذا الموقع المحظورعليكم.. فقد فشلتم فى كل شيء.. وأوشكت الولاياتالمتحدة أن تتفكك وتجرفها الحرب الأهلية بسبب وجودكم فى الإدارة الفدرالية...! (3) يوجد اليوم فى العالم من يعتقد أن تحرير فلسطين من نير الاحتلال الاستيطاني الصهيوني لن يحدث إلا بانهيار الولاياتالمتحدة نفسها.. وهناك سيناريوهات لهذا الانهيار تتنبأ بأن هذا الانهيار ليس بعيدا.. وأنه سيكون أسوأ من الزلزال الذى اكتسح الاتحاد السوفييتي.. قد يكون هذا من قبيل تحقيق أحلام الرغبة .. ولكنه إن وقع فلن يبكى أحد على أمريكا.. فأمريكا بسياساتها الحمقاء الظالمة.. ومواقفها ضد العدالة وضد حقوق الشعوب فى الحرية والحياة الكريمة، هى التى جعلت شعوب العالم تكرهها.. لقد وقفت أمريكا بلا ملل مع الإحتلال الصهيوني من لحظة مولده سنة 1948 حتى هذه اللحظة، وهو يصب العذاب صبا على الشعب الفلسطيني، ويمزقه ويقترف ضده أبشع الجرائم والمذابح فى التاريخ الحديث وهى لا تحرك ساكنا .. بل تدعمه بأحدث الأسلحة المتطورة وبالمال وبالمساندات السياسية, وتقف حائلا دون تنفيذ العدلة ضد جرائمه المتكررة.. وتتكفّل بتدمير أى قوة فى محيطه العربي والإسلامي.. يمكن أن تمتلك قوة تهدد هذا الكيان الغاصب .. بل تحرص هذه الولاياتالمتحدة على إضعاف كل البلاد العربية والإسلامية مجتمعة.. لا عسكريا واقتصاديا فحسب بل سياسيا وأخلاقيا، وتدعم الحكومات الدكتاتورية ضد الحركات الشعبية الإصلاحية، الداعية إلى الديمقراطية واالتغيير، والتى تحاول جاهدة التخلص من النظم العفنة فى كل بلاد العرب والمسلمين.. فى هذا المجال لم تتغير أمريكا ولم تتحول قيد أنملة عن هذا الخط فى سياساتها واستراتيجياتها تجاه العرب والمسلمين .. بل زادت سعارا ودموية منذ بوش الأول هبوطا إلى بوش الثانى ثم أوباما .. وأكرر هنا أن أوباما ليس إلا حلقة فى سلسلة الجنون الإمبريالي لأمريكا القرن الواحد والعشرين.. وكل ما وعد به وصدّقه فيه السذّج ،والمعوقون (سيكولوجيا وسياسيا وأخلاقيا) ، كله هراء فى هراء.. كان أفضلهم وأكثرهم حكمة من قال: "لنعطى الرجل فرصة لنرى ما سيفعل" وقد مر عام ولم يفعل الرجل شيئا مما وعد به.. بل نكص فى كل ما وعد ..أما بالنسبة لى فقد كنت أدرك هذه الحقيقة منذ بدأ يطلق وعوده البراقة بالتغيير.. لم يخدعنى ببراءة وجهه وقوة خطابه، وفصاحة عباراته، ولغته الإنجليزية المتميزة، التى لا يمكن مقارنتها بلغة بوش الركيكة المفككة .. وأول مقالة كتبتها عنه وهو منطلق كالصاروخ على أجنحة الدعاية العالمية .. وصفته كما سبق بأنه [فقاعة كبرى سرعان ما ستنفجر]، فهل كنت مخطئا...؟! يعلم الله أننى كنت بينى وبين نفسى أتمنى أن تحدث معجزة ما ويصدق الرجل فى وعوده .. وأن أبدو أنا مخطئا فى حكمى وتقديرى للأمور .. فلا يهم أبدا أن كاتبا قد أخطأ فى تقديره وحكمه إذا ارتفع الظلم عن المظلومين وتحققت العدالة المفقودة وزال الحصار عن غزة، ودُكّت كل أسوار الاستبداد والعزل العنصري فى مصر وفلسطين، ونالت الشعوب حريتها على الضفتين .. حينذاك لن يكون هناك من هو أسعد منى ...! ولكن للأسف الشديد .. كل الشواهد تدل على أن الأمور فى عهد أوباما تزداد سوءا وتمضى فى تدهورها بلا عائق.. (4) على سبيل المثال لا الحصر: الجدار الفولاذى الذى أقامته مصرلحصار غزة لم يكن لينفّذ إلا بتخطيط وتمويل وتصميم وتشجيع أمريكى.. وفى عهد من..؟! فى عهد السيد باراك أوباما .. وفى الوقت الذىوقعّ فيه هذا الرجل قرارا تنفيذيا يقضى بمنع التعذيب، ويوفر تحقيقا قانونيا مع المعتقلين فى السجون الأمريكية، فإن جماعات حقوق الإنسان تمكّنت من توثيق أدلّة على نطاق واسع تكشف عن حقيقة أن المخابرات الأمريكية تتعاون مع رجال الأمن الذين يواصلون استخدام التعذيب .. أكثر من هذا صرّح دبلماسيون غربيون أن العلاقة وثيقة بين المخابرات الأمريكية وأجهزة مخابرات السلطة [العباسية]، ولا يستبعدون إشرافها المباشر على عمليات تعذيب الفلسطينيين المناصرين لحركة المقاومة الإسلامية حماس فى الضفة الغربية.. وقال أحد المسئولين الغربيين: "إن وكالة المخابرات المركزية تعتبر أجهزة الأمن الفلسطينية ملكية خاصة بها" ومن بين الأساليب التى تدرّب عليها رجال أمن عباس على يد أساتذتهم الأمريكيين عملية [الإغراق الوهمي]، وقد رأينا صورا لها على شاشات التلفزة العالمية، وطريقة تعذيب أخرى يطلقون عليها إسم [الشبح] لا مجال للتفصيل فيها.. فى عهد أوباما أيضا ما تزال أمريكا تستعين بأجهزة أمنٍ خارجية، مثل الأجهزة التى تتمتع بها المحروسة أو المتعوسة، التى تجرى عمليات تعذيب رهيبة بالوكالةعن المخابرات الأمريكية لأفراد[ مشتبه فيهم] تحددهم أو تبعثهم إلى خبراء التعذيب عندنا لبراعتهم المشهورة فى استنطاق المعتقلين المساكين.. وفى عهد أوباما أيضا يجرى طبخ قوانين جديدة لنزع الجنسية الأمريكية وحقوق الإقامة من المشتبه فيهم [دون محاكمة أوتحقيق.. إعتمادا على التقارير الأمنية فقط..!].. كل ذلك بالمخالفة لقوانين الدولية وللدستور الأمريكيّ نفسه.. (5) ولكنى أقول للمراهنين على حصار غزة بأنهم، حتما سيخسرون رهانهم، فإن هذا الحصار بدلا من أن يقضى على حركة حماس كما توهّموا، أدى بدلا من ذلك إلى تعزيز الحركة بشكل لم تكن لتحلم به.. فقد أثبت حصاد سنوات الحصار على غزة تعاطفا عربيا وإسلاميا وغربيا على أوسع نطاق.. تعّزز أكثر بعد واقعة الهجوم الإسرائيلي على قافلة الحرية.. الذى أدى[ بعكس ما قُصد منه] إلى كشف عورات النظم العربية المتواطئة مع عباس وإسرائيل، وأصبحت غزّة هى التى تحاصرهم وتزيد فى عزلتهم عن شعوبهم الساخطة، لقد تضاءل هامش المناورة أمام إسرائيل وحلفائها فى المنطقة، مع إصرار الشعوب وأنصار الحرية فى العالم على تجهيز مزيد من قوافل الحرية لكسر الحصار عن غزة... لسوف تبقى المقاومة وينكسر الحصار وتتبدد الجهود والأموال التى أنفقت على الحصار والأسوار.. و يومئذ سنقول للذين بدّدوا أموالهم على هذا العبث ستنفقونها ثم تكون عليكم حسرة ثم إلى جهنم تحشرون ... والله غالب على أمره. [email protected]