أطلت المذيعة على الشاشة بوجهها الجاد وهى تقول لجماهير القناة الثانية المصرية : " سنذيع عليكم اليوم المباريات الثلاث من كأس العالم على القناة الثانية مع كل ما يفرضه ذلك من جهد وهذا بالطبع جهد مشكور من قناتنا" ، وكانت تعنى جيداً ما تقوله !! تغيرت الدنيا وأصبح عمل المذيعة وباقى طاقم البرامج "الكاست" والذين يحصلون على الآلاف من ورائه هو جهد يشكرون انفسهم عليه ، لأنهم تسلموا الاشارة من المصدر ليبثوها على أجهزتهم ربما يبذل الشباب الذى يمد وصلات الدش فى الريف المصرى بجهد وعمل أكثر تعقيدا منهم قياسا بما يملكه من معدات وخبرة، وربما فى نفس الوقت لم نسمع من أى مدير فنى للمنتخبات المشاركة بنهائيات كأس العالم أى شكوى أو حتى لفت نظرنا لما يقومون به من جهد من أجل امتاعنا ، ولكن الأمر يخص مصر فقط ، أو أصبح سمة لكثيرين بمصر يرون انهم يضحون فى سبيل البلاد ، بالرغم من المقابل الذى يقدر بالآلاف وأحيانا الملايين ، ولكن ما الذى يدفع بموظفة او مذيعة للظهور على الشاشة لتلفت نظرنا ان التليفزيون "خيره علينا" ويجب ان نشكره على ذلك ؟. وهذا يجرنا لمنطقة حوار غير قاصرة على الرياضة ، أصبحت مظاهرها سمة عامة نلاحظها على كافة مجالات الحياة المصرية، فالظاهرة الواضحة هى تدنى المستوى الفنى للمسئولين ، والأخطر انخفاض درجة الإحساس بالمسئولية لأقل درجة، وبالتالى التابعين وباقى الأجهزة ، وربما الأكثر خطورة هنا ان لا أحد من الأجهزة الرقابية تتابع هؤلاء المسئولين ومستوى أداءهم ولا يسألهم المستوى الأعلى او يحاسبهم فلماذا يشعرون بالحاجة للتغيير او يقومون بالتصحيح والتعديل ؟ القضية ان كل مسئول عن جهاز او مؤسسة حكومية يشعر انها ملكه ، ليس من باب الحرص عليها ، ولكن من باب حرية التصرف فيها كأصول مهما تدنت إنجازاتها ، وكأى عمل يغيب عنه الإشراف والمتابعة والمحاسبة ، تدنى مستوى الأداء فى معظم الأجهزة الحكومية على كافة المستويات ، خاصة مع اختيار المسئولين من بين شخصيات قليلة الحيلة ، لا تملك من الفكر أو الجهد ما يمكن ان تقدمه للأجهزة والمؤسسات التى يتولونها ، وما يملكونه فقط هو القدرة على ارضاء المستوى الأعلى ، وهذا يكفى !! لذا وصل الحال بأداء الأجهزة والمؤسسات لأقل مستوى يمكن الوصول إليه ، وحصدت البلاد فى الداخل والخارج نتاج هذه السياسة بضياع حقوقنا لدى القريب والغريب ، وأصبحنا من حجم إهدار الحقوق نشعر بأن المسئولين الموجودين على رأس الأجهزة هم ثلة من المراهقين الذن لا يعرفون إلا مصالحهم الشخصية ولو على جثة مصالح البلاد وهكذا رأينا ما حدث من قرارات دول ال"إندوجو" بخصوص مياه النيل ، وما حدث قبل ذلك فى موضوع مباراة الجزائر وكل ملابساتها ، وأخيراً ما حدث من ردود افعال فى قضية عدم وصول الصورة المشفرة لمباراة افتتاح كأس العالم المقامة فى جنوب أفريقيا من أجهزة قناة الجزيرة الى المشتركين من الجماهير العربية !! فالسمة الرئيسية لردود أفعالنا فى كل هذه الأحداث ، تتسم بالتسرع والضحالة وقلة الحصافة وعدم الحرص على المصالح العليا للبلاد والجماهير ، وأحيانا عدم الفهم وغياب القدرة على الإحساس بالخطر كما حدث من إهمال ولعب بالنار فى قضية مياه النيل !! نعود الى قضية الرياضة والتى لا تنفصل عن باقى المجالات باعتبار ان كل هذه المجالات حاجات جماهيرية و"مصالح" يجب إيجاد أسلوب عصرى يحقق الحفاظ عليها ، دون العودة لتكرار ما ملت منه كل الشعوب العربية سابقا – بالرغم من أنه هو الحقيقة الوحيدة فى كل القضايا – أى مراعاة القومية وصلات الدين والدم واللغة وما شابه ، ولكن كيف نتناسى كل هذه الروابط عند حدوث أبسط المشاكل مع الأشقاء ؟ وهل نقبل ان تكون علاقتنا مع كل دول العالم – برغم نظرتهم الدونية لنا - علاقات تفهم ونسعى بكل جهد لحل الخلافات معهم وبكل احترام بينما نعجز عن حل مشاكلنا التافهة مع أخوة الدم والعرق والتاريخ وكل شيء مع الأشقاء العرب فضلاً عن تبادلنا معاً لكل أنواع السباب والمعايرة ؟ هل هى حساسيات الجوار أو الصراع على الزعامة كما كان سابقا أم هى بقايا جاهلية ؟ وكيف يمكن التغلب على هذه الصفات التى تجعلنا مع كل مشكلة "فرجة للعالم"؟ لا شك ان الطرف القطرى فى قضية التشويش تسرع هو الآخر بتوجيه الاتهام للمسئولين عن "النايل سات" ، وإذا كانت حجتهم أن حرصهم على تعاقداتهم دفعتهم لذلك فلم يفكروا بهدوء ان من تعاقدوا معهم قد دفعوا هم ايضا اموالاً قيمة تعاقدات وليس من مصلحتهم ان يكونوا طرفا فى التشويش او يسمحوا به ، ولكنها "حالة المراهقة" اللحظية التى تصل بالغضب لأقصاه فتعمى العين والعقل عن حقائق مؤكدة يمكن رؤيتها اذا تقمصنا شخصيات رجال الأعمال والمال الذين يتسموا بالحصافة والتحقق قبل إصدار الأحكام ، وكان رد الفعل المصرى ايضا مضاعفاً ومتجاوزاً ، فنحن نتلقى اتهامات أمريكية وإسرائيلية وفلسطينية وعربية كثيرة كل يوم نتعامل معها بهدوء أو كأنها لا تعنينا ، بينما مع اقل "حكة" على الانف من الجزيرة أو قطر يظهر من وراءها إحتقان لا يتحمل الصبر ، وهذا ما لاحظناه فى الفترة الأخيرة مع عدم تبرئتنا لنفس الأشخاص فى قضايا أخرى ، ولكننا طالما ارتضينا بالجلوس معهم وكتابة العقود على مصالح مشتركة فعلينا ان نتعامل معهم كما نتعامل مع الآخرين ، لم اقل ان تغمرنا معهم حسن النية ، ولكن ألا نبادر على الأقل بسوء النية وكأن ما حدث مقصود منهم ، فهم اصحاب المال ويهمهم فى المقام الأول ان ينجح المشروع الذى يجب ان نتعامل معه على انه "مشروع خاص" يحلم صاحبه بنجاحه وحصد أرباح مادية وكسب ثقة الجميع فيه مستقبلاً !! وهل يعنى ذلك أن نترك الأمور معقدة مع تشبث كل طرف بقناعاته ولتظل الأمور بين الأطراف بهذا السواد مع الترشح لازدياد السواد والكراهية بين الشعبين وباقى الشعوب المنضمة مع كل حدث مستقبلاً ؟!! بالطبع لا .. والأمر المقترح ، هو تحويل علاقاتنا العربية – العربية الى علاقات تجارية ، أى علاقات "مصالح" كما يحدث بيننا وبين دول الغرب والشرق ، ولنحافظ على قواعد اللعبة التجارية ، اى ليكن الحد الأدنى فيما بيننا هو ما يربطنا مثلا بدولة كالصين وهو نفسه ما يربط بلاد الخليج والبلاد الأفريقية بها ، ولتكن العلاقة القائمة مبنية على الندية ، ولا يجب ان تسمح حكومة من الحكومات لجهاز أو مؤسسة من مؤسساتها بالتجاوز فى حق الدول أو الشعوب الأخرى !! وعلينا أن نحول جامعة الدول العربية الى ما يشبه الغرفة التجارية العربية أو نختزلها فى المجلس الاقتصادى ، لتقوم بتنظيم العلاقات التجارية بين دولها من خلال التأكيد على الالتزام بالاتفاقات وتذليل الصعوبات أمامها ، وان تكون هناك عقوبات على الدول البادئة بالخطأ فى حق الدولة الأخرى ، وذلك حفاظاً على القليل المتبقى من كرامة الدول العربية التى تبقت من هتك عرضها على يد الأمريكان وإسرائيل وتفتت الولاءات وتفرقها، ولا يجب ان يكون هناك سبيل للتحسر على ما مضى من موروثات لم تعد تقنع مواطن العولمة، فنحن امام عهد جديد يكون كل الغرض منه الحفاظ على العلاقة مظاهر التجارية وحفاظ كل دولة على مواطنى دول الجوار العربية بشكل وبصورة آدمية يتساوى فيه المواطن العربى مع نظيره من الجنسيات الأخرى فى نفس الدولة وهو ما لا نراه فى ظل ظروف العلاقات الحالية التى لا اسم ولا شكل ولا طعم لها إلا مظاهر"التحفز" و"قلة الصبر" على بعضنا البعض والأسوأ "معايرة" مواطنى شعوبنا لبعضها البعض بخصوص العون المادى او الإدارى الحالية أو التاريخية حتى التى لم يكن مواطنى اليوم يعلمون ظروفها أو أسبابها !! وعلى مستوى العلاقات الدينية والاجتماعية فالواضح ان علاقات الدول العربية بباقى دول العالم فى هذا المجال حتى بدول افريقيا على خير ما يرام ولا تواجه مشاكل على الاطلاق ، بل على العكس نجد قمة التسهيلات لهذه الدول فى ظروف الحج والعمرة وما شابه ، فإذا تساوينا بباقى الدول فى ذلك ، فمن المؤكد ان تقل المشاكل وتتزايد التسهيلات ، وعلى المواطنين فى كافة الدول العربية ان تتعامل مع الوضع الجديد بجدية ، فهذا الأمر ليس ردة او خروج عن المألوف ، بل هو قمة التحضر ، فنحن لم نلغى الأخوة ، ولكننا فقط نطبق المثل القائل :"إذا كنتم أخوة فتحاسبوا" ، وهنا على كل طرف ان يقبل الحساب برضى نفس كما يقبل نفس الشروط وهو على ارض اجنبية يحافظ فيها على نفسه وعلى مصالح تلك الدول !! وأرجو ألا نجد من يعترض بحجة الأمن القومى المصرى او العربى، فالأمن القومى اصبح مخترقا ولم يعد له وجود إلا على الخرائط المحفوظة بالخزائن الحديدية فقط ، وإلا ماذا يحدث فى دارفور ودول منابع النيل وما يحدث فى الخليج إلا نماذج لم يعد لنا يد فيها ، فلا يجب ان نكمل الحياة مع الوهم ونعيش الواقع ولو لقليل من الوقت ربما تنصلح الأحوال !! إذا استطعنا النجاح فى تنفيذ هذه الخطوة نكون قد تخلصنا من الكثير من الحساسيات والمشاكل العرقية والعصبية والقبلية، ولنترك للظروف ان تفرض نفسها بعد ذلك ولكن عن قناعة ، فإذا رأت الحكومات والشعوب ضرورة التقارب فى مجال ما او عمل ما فعندها لن يكون ذلك حاجة من دولة او فضل من أخرى لنتخلص تماما من مظاهر الكراهية الحالية ! عندها ، لن تجد وسائل الاعلام المصرية الجزائرية فرصة لتتبادل فيها السباب ولن يجد المواطن المصرى او الجزائرى أسبابا للمعايرة او ستمنعهم العقوبات من القيام بذلك ، وربما تتلاشى مظاهر التحفز والمحاذير المختلفة قبل وأثناء وبعد كل مباراة بين فرق الدول العربية بين بعضها البعض فى كل أنواع الرياضات ! هكذا ، بدلا من السعى لتوطيد العلاقات الرياضية وفى باقى المجالات فى عالم يبحث عن التوحد وإزالة الفوارق والمعوقات التى تمنع التقارب بين كافة الدول مع اختلاف اللغة والدين والعملة والتاريخ وطبيعة النشاط السكانى الذى يميز كل دولة ، نبحث نحن عما يفرق بيننا لمنع التدنى فى التعامل وخسارة البقية الباقية من الود .. فى اى مجال ؟ فى المجال الذى يعيد العلاقات بين الدول التى دام عداءها لقرون .. من خلال الرياضة !! وهكذا بدلا من ان نكون على الفطرة التى خلقنا الله عليها ذكورا وإناثا وجعلنا شعوبا وقبائل لنتعارف ، فلقد اصبحنا نركب سفن العولمة ونتبع الحكمة القائلة : احذر عدوك مرة واحذر صديقك الف مرة *** فلربما انقلب الصديق يوماً فكان أعلم بالمضره هدى الله الجميع ، وأنار قلوب وضمائر حكامنا ومسئولينا ، لجمع شمل كل الشعوب العربية على الخير والسلم ، ومصالح البلاد والعباد .