بَعْد النجاح الكبير الذي حققته جماعة "الإخوان المسلمين" في الانتخابات البرلمانية التي جرت عام 2005م، وحصدت الجماعة خلالها 88 مقعدًا، اعتقدت الجماعة أن الأمور ربما باتت أكثر سهولة في منازلة النظام سياسيًّا وكشفه وتعريته أمام الرأي العام المصري، وإظهار مدى فسادِه واستبداده. انطلقت الجماعة في هذه الرؤية من أنه كان بإمكانها أن تضاعف عدد مقاعدها البرلمانية، لولا التزوير الذي لجأ إليه النظام في الجولتين الثانية والثالثة، ورأت الجماعة أنها بالمزيد من الضغوط على النظام يمكنها أن تضاعف مكاسبَها السياسية من خلال الانتخابات البرلمانية وانتخابات مجلس الشورى وكذلك انتخابات المحليات، بالإضافة إلى المنازلة في انتخابات اتحادات الطلبة والنقابات المهنيَّة. وإذا كانت هذه الرؤية صحيحة نظريًّا، إلا أنه على أرض الواقع كانت هناك مجريات وحقائق مختلفة تمامًا، فالنظام المصري إذا كان قد أُجبر على القبول بالإشراف القضائي على انتخابات عام 2005م تنفيذًا لأحكام قضائية ملزمة، إلا أنه بعد تلك الانتخابات خرج بقناعة أساسية وهي أنه لن يقبل بالإشراف القضائي على الانتخابات مرةً أخرى تحت أي ظرف ومهما كانت العواقب. وصل النظام المصري إلى هذه القناعة بعد أن فضحتْه الجماهير وأسقطت رموزه في تلك الانتخابات، رغم ما مارسه من تزوير ليمنع سقوط هذه الرموز، وأصبحت الحقيقة التي تؤكد أن الحزب الوطني ما هو إلا حزب ورقي ليست له أية جماهيرية أو قاعدة شعبية، أصبحت هذه الحقيقة مصدر اقتناع كل ألوان الطيف السياسي المصري، مما شكل عبئًا ضاغطًا على أعصاب ومفاصِل النظام. أدرك النظام المصري ومعه كل المصريين، أن الجولتين الثانية والثالثة في الانتخابات البرلمانية لعام 2005م لو لم تزوَّرا لكانت الفضيحة أكبر وأشد وطأةً، وكان النظام معرَّضًا لفقدان الأغلبية في مجلس الشعب، مما يعني أمورًا لا يستطيع أن يقبلها، ففقدان الأغلبية معناه أنه لأول مرة لا يستطيع أن يمرِّر سياساته وفسادَه وتزويرَه، وأن وزراءه أصبحوا معرَّضين يوميًّا للاستجوابات وسحب الثقة وهو ما يعني حتمية الاستقالة، وأصبح النظام مهددًا لأول مرة ألا يكون رئيس ووكيلا المجلس ورؤساء اللجان من كوادره التي يرضى عنها، وهو ما يعنى ورطة كبرى ستقود لا محالة إلى تغيير نمط الحكم وشكل النظام السياسي. أدرك النظام كل ذلك فبدأ يخطِّط للتغييرات الدستورية لتحقيق عدة أغراض، منها التوريث وكذلك إلغاء الإشراف القضائي على الانتخابات، وحقق ما أراد، في خطوة تثبت أنه متمسك بطغيانه وفساده إلى آخر لحظه من عمر رموزه، وأنه لن يزيحَه إلا إرادة جماهيرية قوية ومنظمة وواثقة وغير خائفة ولا مرتعشة، والأهم من ذلك كله قوية غير مفتتة. وفي أول تطبيق لاستراتيجية النظام الجديدة، جاءت انتخابات مجلس الشورى الأخيرة كارثية وفضائحية، فالتزوير علنيٌّ وممنهَج، وتغيير إرادة الناس يحدث بلا خوف ولا حياء، في ظل منع أجهزة الدولة الرقابة المحلية من وسائل إعلام ومنظمات المجتمع المدني حتى أولئك الذين منحتهم تصاريح بالرقابة على الانتخابات. وكانت نتيجة هذا التزوير الفاجِر، فوزًا كاسحًا لمرشحي الحزب الوطني الحاكم بغالبية المقاعد، يقابله إخفاق كامل لكل مرشحي الإخوان في الفوز بأي من المقاعد، في تحليل يعني اللا منطق واللا خجل. وأثبت النظام المصري، الذي مدد العمل مؤخرًا بقانون الطوارئ، أن تشدقَه بالقول بأن هذا القانون لا يُستخدم إلا ضد الإرهاب، ما هو إلا كذب وتضليل، فقد تم استخدام قانون الطوارئ لتزوير الانتخابات ولمواجهة المرشحين والقبضِ عليهم وتحجيمهم، وإبعاد المراقبين عن أداء عملهم وتعطيل تحركاتِهم لتنفيذ واجبهم، وتحويل اللجنة العليا للانتخابات لتكون أحد فروع الحزب الوطني وأدواته، فهي تشطب مرشحًا (معارضًا طبعًا يخشاه النظام لشعبيته) وتتهمه زُورًا برفع شعارات غير قانونية، وتغضُّ الطرفَ عن شطب مرشحة الحزب الوطني التي صدرت بحقها أحكام قضائية نهائية بالشطب. فهل يُعقل أي مجنون أن المصريين الذين خرجوا للشارع منذ عام 2007م، والذين أصبح شارع مجلس الشعب مقرّ إقامتهم الدائم، والذين يتظاهرون يوميًّا احتجاجًا على تصفيتِهم بموجب سياسات الخصخصة وبيع شركات القطاع العام، واحتجاجًا على شَظَف العيش وتدهور الخدمات وتدني الأجور، هل يَعقل مجنون أن هؤلاء يموتون عشقًا في الحزب الوطني الحاكم الذي هو سبب كل هذا البلاء، فيعطونه أصواتهم في انتخابات مجلس الشورى الأخيرة لدرجة أن يكتسحها ويحصل على 60 مقعدًا من بين 64 مقعدًا تم حسم الاقتراع عليها؟! وأن هؤلاء المصريين اتحدوا ضد أحزاب المعارضة فلم تحصلْ هذه الأحزاب مجتمعةً إلا على أربعة مقاعد فقط؟! نتائج انتخابات مجلس الشورى الأخيرة تعني أن الإخوان فقدوا، بصورة مفاجئة وخلال أعوام أربعة، كل مؤيديهم تقريبًا بعد أن كانوا قد حصلوا عام 2005م على نحو 1.8 مليون صوت، والأغرب من ذلك أن عددًا من مرشحي الإخوان في انتخابات الشورى الأخيرة هم أنفسهم من أعضاء مجلس الشعب الحالي، والذين حصلوا في دوائرهم نفسها على آلاف الأصوات التي مكَّنتْهم من هزيمة مرشحي الحزب الوطني حينها. وهكذا، أصبحت نتائج انتخابات الشورى الكارثية هذه مؤشرًا على نتائج الانتخابات التشريعية الأهم التي ستُجرى أواخر العام وهي انتخابات مجلس الشعب، فالجميع قرأ رسالة النظام وهي: "الدولة اتخذت قرارًا باستبعاد الإخوان من الانتخابات القادمة لمجلس الشعب الذي يشغلون حاليًا خمس مقاعده". هذه الظروف كلها تجعل من المحتَّم على الإخوان تغيير فكرهم السياسي وسلوكهم السياسي في آنٍ واحد، لأنهم بهذا الفكر وهذا السلوك استطاع النظام أن يحدّ بشكل كبير للغاية من قوتهم وجماهيريتهم وأن يمنعهم من تحقيق أي نجاح. والإخوان أدرى بأمورهم، ولديهم من الخبرات والكفاءات ما يمكّنهم من وضع استراتيجية جديدة تتيح لهم التعامل مع النظام بشكل أكثر قوةً وكفاءة، وتمكِّنُهم من الخروج من المعادلة غير المتزنة التي وضعهم النظام أمامها. قد يرى الإخوان أن دعم د. محمد البرادعي هو أحد خيارات مواجهة النظام والردّ عليه وإحراجه وتشديد الضغط عليه، وربما جاء اللقاء الذي تَمَّ مؤخرًا بين البرادعي والكتلة البرلمانية للجماعة ليؤكد ذلك. قيادات الجماعة فرَّقت بين تأييد الجماعة للمطالب السبعة التي تهدف إليها الجمعية الوطنية للتغيير ومنها تعديل الدستور وإلغاء حالة الطوارئ والعدل والديمقراطية وغيرها وبين تأييد الجماعة للبرادعي كمرشح للرئاسة، وأعلن المرشد العام للجماعة د. محمد بديع عن التأييد الرسمي للجماعة للبرادعي، ورد البرادعي بأنه يدعم حق الإخوان المسلمين في إنشاء حزب أو المشاركة السياسية في إطار دولة مدنيَّة، وعدم ممانعته من زيارة المرشد العام للجماعة. الحزب الوطني استشاط غضبًا بعد التقارب والتنسيق الذي حدث بين البرادعي والإخوان، والذي من المنتظر أن يصل إلى ذروته عقب اللقاء المنتظر بين المرشد العام والبرادعي، فالحزب يعلم أمراض النخبة السياسية المصرية، ويعلم أنه اخترقها وسيطر عليها وأفسدها سواء عن طريق إفساد الأحزاب بالإغراءات المادية والتسهيلات والإعانات والمقاعد "المهداة" في مجلسي الشعب والشورى، أو بتدبير المؤامرات لها ولمن يعمل فيها، لكنه يدرك أن اللقاء والتنسيق بين البرادعي والإخوان يختلف تمامًا عما سبق. لم يعُدْ خافيًا، بعد قرابة أربعة أشهر على بدء الحراك السياسي الذي حدث في أعقاب وصول البرادعي إلى مصر وبدء جولاتِه ومخاطبته الرأي العام المصري، أن هناك عددًا من المشكلات والخلافات قد ظهرت بين البرادعي والنخبة المحيطة به انتهت باستقالة أبرز اثنين من أركان حملته، وهما الدكتور حسن نافعة والأستاذ حمدي قنديل، وأهم ما يمكننا التركيز عليه هو ما كشفه الإعلامي حمدي قنديل من أن البرادعي لا يثق كثيرًا في النخبة المصرية، ويعتبر أن الرهان على الشباب أجدى وأنفع. وإذا كان البرادعي يفكِّر بهذه الطريقة، فيبدو أنه قد صحح أوضاعه بسرعة، وأدرك أن طريقه للجماهير لن يكون من خلال الصالونات الثقافية، وإنما سيكون من خلال تيار يوفِّر له الدعم ويوصِّله بالناس، والإخوان يمكنهم توفير ذلك له. د. حسن نافعة والأستاذ حمدي قنديل ومن على شاكلتهما، شخصيات جيدة ومحترمة في حد ذاتها، ولكنهم مجرد نخبة بلا سند جماهيري، كما أن الأحزاب اختلفت على البرادعي، وهناك رائحة كريهة لصفقات مشبوهة بينها وبين الدولة مقابل رفضها للبرادعي والهجوم عليه، وهناك روائح كريهة مشابهة على المستوى الثقافي والإعلامي، ويبدو أن البرادعي بخبرته الكبيرة قد أدرك كل ذلك فكان سببًا في تقاربه الأخير مع الإخوان. بقي أن يشعرَ البرادعي بالتأييد الكامل من الإخوان، لأن المشروع السياسي المعلَن للرجل أفضل بكثير من مشروع النظام الحالي القائم على الاستئصال والاستبعاد والحرب الكاملة وتجفيف المنابع مع التيار الإسلامي، فالرجل يدعم الإخوان لإنشاء حزب سياسي والعمل من خلاله بصورة قانونيَّة بعيدًا عن الملاحقة والاستهداف بحجة العمل خارج إطار الشرعيَّة، والوجه العلماني للبرادعي مقبول يمكن للإخوان ولغيرهم من الإسلاميين العمل معه. نرجو أن يكون الإخوان قد استفادوا من تجاربهم السياسية الطويلة وأن يراهنوا هذه المرة رهانًا صحيحًا، وألا يمسكوا بالعصا من المنتصف، وندعوهم أن يتحملوا قليلًا وألا يعبَئوا بتهديدات النظام الحالي حتى لو تحملوا فاتورة معيَّنة، فهم يتحملون فواتير كثيرة بلا عائد، أما فاتورة تخليص المصريين من هذا النظام وإراحتهم منه وتحريرهم من أسرِه، فهي بعائد كامل وحقيقي، ولن ينساها لهم الشعب المصري، ثم إنهم هذه المرة لا يدعمون رموزهم وأبناءهم في انتخابات ستحسب نتيجتها لهم، وإنما يدعمون رمزًا اقتنع به كثير من المصريين وأيَّدوه، والإخوان في ذلك جزءٌ من الشعب المصري ولا يستطيع أحد سلبَهم هذا الحق، ولن يكون مبررًا أمام الشعب المصري القبض على الإخوان من أجل ذلك. المصدر: الإسلام اليوم