يجب ألا تضيع بوصلة البعض نحو مصر لأنه يختلف مع نظامها السياسي أو حانق على أوضاعها الإجتماعية والسياسية. نحن أيضا نختلف مع النظام وننتقده أحيانا بعنف بأسمائنا المعروفة وليس بالرموز أو الأسماء المشفرة. إختلافنا ينطلق من الغيرة على مصر ونظن فيه خيرا بأنه غيور عليها أيضا، ويحبها كحبنا. هنا فقط تكون البوصلة في وضعها الصحيح لأننا نتناول الأفعال وليس الضمائر، النتائج الملموسة للممارسات الخاطئة وليس تشريح القلوب. عندما نرى حسنا يجب أن نقول أحسنت، فالكاتب أو الناقد عندما يوغل في العداوة فلا يرى إلا السواد، يصير حاله كحال قطاع الطرق أو مطاريد الجبال الذين ينتقمون لأوضاعهم فيسلبون الناس أملاكهم ويهددونهم في أمنهم! فورا وجد البعض في دعاوى قناة الجزيرة الرياضية ضد مصر الحقيقة بينما رأى الكذب فيما دافع به المصريون عن أنفسهم ازاء اتهامهم بالقرصنة. هناك أيضا من وصف إداراتها بالمحترفين لأنها ألبست مصر "السلطانية" باذاعتها على قناتها المفتوحة مباريات مباعة للقنوات الأرضية المصرية. لا أعرف ما هو مفهوم الإحتراف في ذلك، علما بأن إتحاد الإذاعة والتلفزيون المصري، وأنا هنا لست موكلا للدفاع عنه، وإنما اتحدث من معلومات متوفرة لي، لم يوقع أي اتفاق مع قناة الجزيرة وإنما مع مؤسسة الإيه أر تي قبل أن تبيع قنواتها الرياضية للأخيرة التي ورثت هذا الاتفاق ضمن اتفاقيات أخرى كاشتراكات الأفراد الذين غدرت بهم "الجزيرة" وباعتهم بطاقات جديدة قبل بداية كأس الأمم الأفريقية على أنها اشتراك في باقتها الرياضية لمدة سنة، ثم عادت وأضافت قناتين لكأس العالم باعتهما أيضا، فأصبح لزاما على من اشترى البطاقة السابقة أن يدفع من جديد ما يعادل مائة دولار لكي يشاهد كأس العالم، وبعد اليوم الأول من المونديال قامت بتخفيض ذلك إلى 80 دولارا في الخليج و75 دولارا في باقي الدول العربية، زعما منها أنها تخفف عن كاهل الناس، والحقيقة أنها خدعت بعضهم فباعتهم بثمن أكبر من البعض الآخر! كنت أتمنى من الذين تحدثوا عن هذه الاحترافية أن يشرحوا لنا الفرق بين ذلك وبين لص يبتكر طرقا جديدة للصعود إلى البيوت وسرقتها، أو موظف يحتال على الناس فيأخذ منهم سعر الخدمات مضروبا في إثنين؟! تعرف إدارة الجزيرة أن الأفراد لا حول ولهم ولا قوة ولن يقيموا عليها دعاوى قضائية، لكن المؤسسات يمكنها أن تفعل ذلك وهو ما هدد به إتحاد الإذاعة والتلفزيون المصري عندما وجد أن ما اتفق على شرائه متوفر على قارعة الطريق لغيره بالمجان، مما جعل المبلغ الكبير المدفوع مهددا بعدم الاسترجاع عن طريق الاعلانات خصوصا أن الشركات المعلنة لم تجد سببا لتكلف أموال باهظة في مباريات لم تعد حصرية بالقنوات الأرضية، فالكل تقريبا عنده أجهزة اللاقط الهوائي التي تصل بهم إلى القناة المفتوحة على الجزيرة، وهي أسهل من الهوائيات التي تتيح لهم استقبال ترددات القنوات الأرضية. والغريب أن "الجزيرة" راحت تستعرض على الهواء بيانات القرصنة التي تعرضت لها دون تحديد الجاني، لكن باشارات تحمل اتهاما لمصر، فقد طلبت من مشاهديها التحول لعربسات ونورسات، وتلبست مقدم برنامجها التحليلي الأخضر بالريش الروح الحنجورية لخطباء القومية العربية، وهو يعلن أن شبكته تعرضت لمحاولات تخريبية، وأن الفيفا أصدر بيانا يؤكد فيها دعمهم ووقوفه معهم في حربهم التي لم نعرف حتى الآن طرفها الثاني مع أن "الجزيرة" وعدت أكثر من مرة بكشفه وفضحه! وقامت بقطع البث في المباراة الافتتاحية في آخر عشر دقائق عن التلفزيون المصري الذي كان قد تحول إلى التقاط إشارة العربسات بعد التشويش الذي حدث على ترددات الجزيرة على النايلسات، فأضطر المصريون إلى ملء تلك الدقائق بلقطات معادة من المباراة، مما قد يعرضها للخسارة أمام المعلنين. واعتلى هشام الخالصي أحد أعضاء مركز البث الدولي لقناة الجزيرة بالدوحة منبره الخطابي ليهدد بلهجة حازمة "هذه قرصنة تلفزيونية لا مجال لوجودها مع الجزيرة الرياضية، ونتمنى أن يفهم جميع الضعفاء أمام قوة الجزيرة الإعلامية أنه لا مجال للمزاح معها". هذا الحزم والتخويف انقلبا فورا إلى لغة مهادنة بمجرد أن رد المهندس أسامة الشيخ رئيس إتحاد الإذاعة والتلفزيون المصري بأن "التلميحات التي قامت بها القناة القطرية وعلى الهواء مباشرة في حق التلفزيون المصري والقمر الصناعي نايلسات غير مقبولة، فقد حاولت القناة لعب دور الضحية وهي الجاني، بعد أن أفسدت الشارة على القنوات المصرية لأنها لن تخسر شيئا كونها تنقل من خلال أقمار العربسات ونورسات والهوت بيرد". وهدد الشيخ باللجوء إلى الطرق القانونية. هنا عاد الخالصي ليقول: نحن لم نتهم مصر ولم نشر إلى أي جهة تحديدا! طبعا من حسنات الإدارة المصرية لهذه الأزمة المصطنعة أن الحكومة أو أي جهة رسمية فيها ابتعدت تماما عنها تاركة الأمر للمحترفين ليردوا على المحترفين. تم ابعاد الموضوع عن علاقة دولتين شقيقتين رغم خلافاتهما الظاهرية، فقد كان من العيب أن تجعل مصر بقدرها الكبير نفسها في مواجهة مع قناة فضائية مهما كان تأثيرها واحترافيتها. لكن العيب الأكبر أن يخرج بعض بني جلدتنا فيشيدوا بهذه القناة ويقزموا من مصر التي لم تفعل شيئا سوى أنها أتاحت لشعبها أن يرى بعض المباريات مجانا ولو لم تفعل لضربوها بمقاليع النقد والتشفي أيضا! والسؤال الآن الذي كان يجب أن يوجه لطالبي الثانوية العامة في امتحان اللغة العربية يوم السبت الماضي: اكتب موضوعا عن الفرق بين الاحتيال والاحتراف؟! [email protected]