نتج عن هيمنة الفكر الشمولي الإستبدادي في معظم العواصم العربية ضعف مؤسسات التنشئة السياسية والتعليمية والثقافية وتعرض شعوبها إلى اختراق ثقافي خطير. ولهذا تغييب عن شعوبنا العربية الكثير من أبجديات صراعنا مع الحركة الإستعمارية الصهيونية في فلسطين، وتنتشر بين شبابه أساطير وأكاذيب ليس لها أساس من الصحة.. اليوم استكمل الحديث عن كيفية انجاز عمليات تهويد فلسطين والأطراف التي قامت بها.. لم تحدث عملية تهويد فلسطين دفعة واحدة، وإنما جاءت بشكل تدريجي، وامتدت إلى ميادين كثيرة في الداخل والخارج. بدأت الحملات المكثفة للتهويد منذ القرن التاسع عشر، فبين عامي 1871 و1877 قام ما يطلق عليه "صندوق اكتشاف فلسطين" بعملية مسح للبلاد ثم وَضَعَ أربع خرائط لفلسطين بأسماء عبرية قديمة مكان الأسماء العربية. واستمدت هذه الأسماء العبرية من مسميات تلمودية وتوارتية، وهناك أسماء تعود إلى حاخامات وأدباء، وكلمات محرفة عن العربية، وأسماء لزعماء إسرائيليين وأجانب.. وبهدف طمس كل أثر يدل على الهُوية العربية للقدس، تم تغيير أسماء الشوارع من الأسماء العربية التاريخية إلى أسماء عبرية، فشارع وادي حلوة في سلوان صار "معاليه دافيد" وشارع وادي الربابة أصبح "جاي هينوم"، وهكذا. وزعمت آلة الدعاية الصهيونية بأن الكثير من الأسماء العربية ما هي إلا تحريف للأسماء العبرية القديمة، وأن ما تقوم به هو إعادة الأسماء الأصلية إلى مواقعها.. وهذا الزعم بالطبع يجافي الحقيقة التاريخية الراسخة بأن العرب الكنعانيين سكنوا فلسطين قبل مولد النبي يعقوب عليه السلام وظهور بني إسرائيل بآلاف السنين.. وامتدت عملية التهويد إلى كلمة فلسطين ذاتها، فأمام مدلولاتها التاريخية والسياسية، ركزت عمليات التضليل الصهيونية على نطق حرف الشين بدلا من السين، وبعد أن كانت الحركة الإستعمارية تستخدم كلمة فلسطين في عناوين مؤسساتها (مثل "النادي الفلسطيني في باريس"، "الصندوق التأسيسي لفلسطين"، "صندوق مال فلسطين"، "الفرقة الموسيقية الفلسطينية")، صارت الحركة تستخدم كلمة "إسرائيل"، لأن الكلمة تتناسق مع الإسم العبري لفلسطين "إيرتس يسرائيل"، كما أن للكلمة مدلول عنصري عرقي كبديل للصفة اليهودية في كلمة يهود.. وهي أفضل من كلمة "اليهودية"، حتى لا تقف حدود الدولة المنشودة عند حدود ما تعتبره الحركة الصهيونية مملكة يهودا القديمة والتي ضمت جنوبفلسطين فقط دون الساحل.. كما استخدت كلمة "صهيون" – وهي رابية بجوار القدس أقام عليها اليبوسيون العرب حصنًا لهم قبل ظهور بني إسرائيل بحوالي 2000 سنة، لتسمية الحركة الإستعمارية اليهودية فصار اسمها الحركة الصهيونية.. هذا بجانب قيام الحركة الصهيونية بتسريب مضامين سلبية لكلمة فلسطين في المعاجم الأجنبية، ففلسطين ظهرت في إحدي طبعات معجم أكسفورد بمعنى "أحد الشعوب الغريبة المعادية التي أغارت على شعب إسرائيل"، وفي الطبعات المتداولة الآن لهذا المعجم، وكذا في معجم كامبريدج، لن تجد أي أثر لكلمة فلسطين (Palestine) أو فلسطيني (Palestinian) بالإنجليزية.. ووصل الأمر إلى أن صار تهويد أسماء السياسيين اليهود شرطًا للتطوع بالجيش وللترقية.. ولعل أبرز جهود التهويد هو إحياء اللغة العبرية القديمة لاستخدامها كمقوم أساسي لهُوية مصطنعة أطلق عليها الهُوية العبرانية التوارتية.. وقد وُظّفَت لعمليات التهويد تلك أطراف عدة على رأسها رجال السياسة والدعاية والجغرافيين والتاريخيين وأساتذة الجامعات والمدارس والمؤسسات التابعة للحركة الإستعمارية قبل 1948 ومؤسسات الدولة بعد 1948. وقد استغلت مؤسسات الدولة كل أدوات التنشئة السياسية والاجتماعية التعليمية لزرع هذه الأسماء الجديدة في نفوس الناس، وعلى رأس هذه المؤسسات جاءت وسائل الإعلام والدعاية الصهيونية المقروءة والمسموعة والمرئية.. ففي عام قيام الدولة تم تشكيل لجنة خاصة عرفت باسم "اللجنة الحكومية للأسماء" كانت مهمتها دراسة أسماء الأماكن والمواقع الجغرافية ووضع أسماء يهودية بديلة لها، ثم نشر هذه الأسماء الجديدة في "نشرة الوقائع الإسرائيلية" الرسمية.. وفي التعليم قامت مؤسسات الدولة بوضع كل الأسماء العبرية الجديدة في الكتب والمقررات الدراسية، وطالبت المدرسين والطلاب باستخدامها.. كما تم تصميم خريطة معدلة للخريطة التي وضعتها سلطة الإنتداب البريطاني عام 1944 ووضعت الأسماء العبرية مكان الأسماء العربية. وتم الدفع بالأكاديميين وأساتذة الجامعات للمشاركة المكثفة في كل مؤتمر جغرافي دولي، ففي عام 1967 تقدمت إسرائيل بمذكرة إلى المؤتمر الدولي لتوحيد المصطلحات الجغرافية في جنيف في محاولة لفرض الأسماء العبرية.. كما تتعاون إسرائيل مع دور النشر والأطالس الدولية والكتب الجغرافية والأدلة السياحية المنتشرة حول العالم.. وأنتجت مؤسسات الدولة "أطلس إسرائيل" و"الموسوعة اليهودية" و"موسوعة الصهيونية وإسرائيل" و"المعجم الجغرافي لإسرائيل"، و"الدليل السياحي" وكتب دعائية متعددة.. قارن هذا كله بعمل الكثير من المؤسسات العربية الرسمية وغير الرسمية العاملة في مجال الثقافة واللغة العربية والجغرافيا والسياحة.. ومن المؤسسات الأكاديمية العاملة في هذا المجال – مجال أكبر عملية تزوير في التاريخ – الجامعة العبرية بالقدس ومعهد بن تسفي للدراسات التلمودية الذي نشأ عام 1948 بهدف إسباغ الهوية اليهودية على فلسطين والإستيلاء على المخطوطات ونشر كتب عن التاريخ الجديد المزيف.. ومنذ العام 2006 يتم تكثيف تهويد المنطقة المحيطة بالأقصى وأقيمت الكثير من الإنشاءات لفرض أمر واقع جديد في ظل الإنقسام الفلسطيني والتخاذل العربي، فتم بناء كنيس لصلاة اليهود أسفل وفي جوار المسجد الأقصى وتم توسيع ساحة البراق وإنشاء متاحف لتاريخهم المزعزم، أبرزها متحف يطلق عليه "أنا وأنت وقافلة الأجيال" تحت المسجد الأقصى وفي محيطه وهو يقدم محاكاة لما يسمونه "التاريخ اليهودي" والذي يتضمن سبع مراحل مزعومة.. ومع غفلة العرب الطويلة وانقسام الصف الفلسطيني المهين، فإنّ القدس تشهد - حسب تصريحات للشيخ عكرمة صبري في مارس 2009 – حملة تهويد مكثفة ومتسارعة لم تشهدها من قبل.. إذ بلغ عدد البيوت المهددة بالإخلاء أو الهدم نحو 200 بيت، كما أن هنالك نحو 2700 منزل على قائمة الهدم خلال السنوات الثلاث القادمة.. كما تمت مصادرة الآلاف من الدونمات لتوسعة المستوطنات وإنشاء 73 ألف وحدة استيطانية منها نحو 5700 وحدة في القدس.. وتم رصد 600 مليون شيكل إسرائيلي (نحو 150 مليون دولار أمريكي) لهذه العمليات.. ويتم ذلك تحت دعاوى الترميم والتطوير، كما قالت مؤسسة الأقصى للوقف والتراث، وبهدف تغيير الطابع الديني الإسلامي للمدينة وبناء مشاريع سياحية وترفيهية وتحويل المساحات المحيطة بأسوار القدس القديمة إلى حدائق عامة.... وجدير بالذكر أنه في شأن الحفريات تحت المسجد الأقصى هناك اتفاق بين العلمانيين والمتدينين على تهويد القدس وإنكار أي حق للعرب فيها.. والأخطر من كل ما سبق قيام الصهاينة بعمليات تسميم سياسي موجهة إلى العقول العربية والأجيال الشابة بهدف استبدال قيم ومفاهيم معينة بأخرى ونقل مفاهيم وقيم مزيفة إلى نخب محلية ثم ترك هذه النخب لترويج ونقل هذه الأفكار إلى الجماهير عن طريق أدوات الدعاية والتعليم المختلفة.. الإستبداد في الداخل يفتح البلاد أمام الاختراق من الخارج، والإستبداد والاختراق يؤديان معا إلى التخلف والتشرذم و"التهويد".. ------------- * قسم العلوم السياسية – جامعة الإسكندرية www.abdelfattahmady.net