الفقرة السابقة هى جزء من قرار المحكمة الدستورية العليا فى مصر بشأن الرقابة السابقة على قانون الحقوق السياسية الذى أصدره مجلس الشورى تمهيدا لإجراء انتخابات مجلس النواب قبل نهاية العام الحالي أثار هذا القرار "الصدمة " لغطا واسعا فى الأوساط السياسية بما يتضمنه من منح حق التصويت والترشح للعسكريين وأفراد وضباط الشرطة ، فمعظم القوى السياسية وقوى شباب الثورة إعترضت على مباشرة العسكريين للحقوق السياسية لأن ذلك يعتبر إقحاما مباشرا للمؤسسات التى تتصف بالحيادية فى الشأن السياسي. بعض مؤيدى القرار استشهدوا بأن الدول الديمقراطية فى مجملها تسمح بتصويت العسكريين فى الانتخابات مثل الولاياتالمتحدة وكندا وأستراليا وفرنسا والمملكة المتحدة والسويد، يضاف إليهم إسرائيل وجمهورية التشيك ونيوزيلندا وغيرهم. بينما معارضوا القرار – وهم الأكثرية – يحتجون بأن الدول التى لا تسمح بتصويت العسكريين فى الانتخابات عادة ما يكون فى تاريخها صراع مدنى عسكرى مثل دول أمريكا اللاتينية كالبرازيل والارجنتين والأكوادور، وكذلك تركيا والكونغو وأندونيسيا، وغيرها وبالتالي فإن تشابه الظروف بين مصر وبين الدول سالفة الذكر تجعل تصويت العسكريين أمرا محظورا . يحتج المعارضون أيضا بنص الدستور الحالي حيث نص فى ديباجته على أن ( قواتنا المسلحة مؤسسة وطنية محترفة محايدة لا تتدخل فى الشأن السياسي وهى درع البلاد الواقى ) مما يفيد بحظر تدخل العسكر فى الشأن السياسي على العموم . القضية هنا ليست فى تفسير المحكمة الدستورية لمبدأ المواطنة، وإنما المسألة تكمن فى الصورة الذهنية التى انطبعت فى ذاكرة جل المصريين حول أداء المحكمة المثير للجدل . سبب تلك الصورة يرجع إلى طبيعة المحكمة وتشكيلها وتاريخها الملئ بالمفارقات، فالثابت أن الدستورية العليا ليست جزءا طبيعيا من القضاء المصرى، بمعنى أنها ليست محكمة مشكلة بالشكل الطبيعى الذى تتشكل به المحاكم فى منظومة القضاء المصرى، بل كانت أشبه بلجنة شكلتها الحكومة ممثلة فى رئيس الجمهورية ووضعتها فوق القضاء، وبالتالي فقد صارت المحكمة الدستورية الوحيدة على مستوى الجمهورية التى شكلها الرئيس المخلوع، بينما كل المحاكم المصرية مشكلة من السلطة القضائية. كما أن إنشاء المحكمة الدستورية يرجع إلى عهد الرئيس جمال عبدالناصر ، فقد أنشأها ضمن إجراءات مذبحة القضاء عام 1969، و أعطى لنفسه سلطة تعيين قضاتها من أى جهة، وجعلها تعلو محكمة النقض والمحكمة الإدارية العليا و جعل لها سلطة إلغاء أى حكم قضائى يصدر من أى محكمة بناء على طلب الوزير المختص، وقد اعترضت الجمعيات العمومية لمحاكم النقض والإستئناف وأندية القضاة ونقابة المحامين على طريقة تشكيل المحكمة وطريقة أدائها وذلك فى عهود وعقود متتالية ، إلى الدرجة التى جعلت نادى القضاة يعقد مؤتمر العدالة الأول عام 1986، ويخرج بتوصيات بإلغاء المحكمة الدستورية العليا، إذ لا مبرر لوجودها، ولا يمكن للقضاء أن يستقل إلا بإلغائها. بدأت الدستورية أحكامها المثيرة للجدل حين تم تزوير الانتخابات البرلمانية عام 1990، وأحيلت الدعوى للمحكمة الدستورية، لكنها امتنعت عن الفصل فيها لمدة 10 سنوات، حيث أصدرت حكما عام 2000 بعدم دستورية قانون الانتخابات، وقد كشف " فتحى سرور" فى حوار مع روزاليوسف فى 15 يوليو 2000 أن مبارك ترأس اجتماعات تم الاتفاق فيها على تأجيل حكم المحكمة الدستورية 6 سنوات فى العام 1995 تم رفع دعوى ببطلان إحالة المدنيين لمحاكامت عسكرية ولم تفصل المحكمة فى الدعوى حتى الآن وفى العام 2007، قام مبارك بدعوة الشعب للاستفتاء على تعديلات دستورية تمهد لتوريث الحكم لنجله جمال مبارك، وقد وصفت محكمة القضاء الإدارى الاستفتاء آنذاك بأنه غير دستورى لعدم وجود إشراف قضائى عليه، وأحالت الدعوى للمحكمة الدستورية للنظر فى عدم دستورية الإستفتاء، لكن المحكمة لم تفصل فى الدعوى حتى اليوم والجميع يتذكر كيف أن المحكمة قد تدخلت بشكل مكثف فى الشأن السياسي وذ لك فى عهد المجلس العسكرى الذى تولى مقاليد الحكم إبان ثورة 25 يناير فقد حكمت بعدم دستورية قانون العزل السياسي ، وقد ترتب على ذلك من خوض للمرشح الفلولى " شفيق " للسباق الإنتخابى، كما أصر أعضاء المحكمة على حلف الرئيس "مرسي " لليمين الدستورية أمامهم وذلك بعد أن قاموا بحل مجلس الشعب- الذى انتخبه زهاء 31 مليون مصرى - فى 14 يونيو 2012 بل وتمادت المحكمة حين أبطلت قرار الرئيس المنتخب بعودة مجلس الشعب بعد أسبوع من توليه مقاليد الحكم. يرى البعض أن دخول أعلى محكمة فى البلاد معترك السياسة يشكل خطرا على المؤسسات النظامية و المتماسكة فى الدولة وفى القلب منها مؤسسة الجيش العريقة ، كما يلمح آخرون أن تلك محاولة جديدة لإقحام الجيش فى الشأن السياسي وذلك بعد فشل حملة التوقيعات التى أطلقتها المعارضة لتفويض الجيش بحكم البلاد !! كما يخشى مؤيدو الرئيس – ومعهم الجماهير المتعطشة للإستقرار -من أن أداء المحكمة العليا قد يؤدى إلى تعطيل انتخابات مجلس النواب الذى يتولى سلطتى التشريع والرقابة ،وبالتالي سيؤدى ذلك إلى غياب حكومة منتخبة بإرادة شعبية ، كما سينتج عن ذلك أيضا تعطيل إجراء انتخابات مجلس الشورى الجديد والمحليات وكذلك تعطيل إصدار القوانين المكملة للدستور بما يعنيه ذلك من استمرار لحالة السيولة الحالية فى المؤسسات والوزارات وكذلك استمرار حالة الضباب السياسي المستمر منذ 25 يناير 2011 . معضلة المحكمة الدستورية دفعت الكثيرين إلى التفكير فى حلول لإنقاذ الموقف ، تنوعت تلك الحلول بين الميل إلى روح اللين والمواءمة واتباع لغة التفاوض أحيانا وبين الشدة والصدام والإجراءات الإستثنائية أحيانا أخرى ، فهناك فريق يرى أهمية سيادة روح التفاهم والوئام ومن ثم فليوجه الرئيس الدعوة لأعضاء المحكمة الدستورية وقيادات الشرطة والجيش لاجتماع مشترك وبحث الأمر من مختلف جوانبه ومن ثم طرح مقترح على المحكمة بإعادة النظر فى قرارها مراعاة للمصلحة العليا للبلاد ، ويدعم هذا الرأى تصريحات الفريق "السيسي " الأخيرة بأن الجيش لم ولن يتم تسييسه نهائيا !! كما يرى أصحاب ذات الرأى بأن أقصي إجراء تصعيدى من الممكن اتخاذه فى حال إصرار المحكمة على موقفها هو طرح قضية تصويت العسكريين لاستفتاء الشعب . بينما يرى الفريق الثانى أن كل الإجراءات السابقة هى إجراءات "مسكنة" ، بل يذهبون إلى أبعد من ذلك حين يقررون أن المحكمة الدستورية تدخل فى إطار المؤسسات التى توصم بالفساد الواجب مكافحته والقضاء عليه وبالتالي وجب اتخاد خطوات تصعيدية متسلسلة تتمثل فى :- 1-طرح قضية "مشاركة العسكرين فى الإنتخابات " فى استفتاء شعبى..ثم 2- الضغط على أعضاء المحكمة من خلال التلويح بحلها حلا دستوريا عن طريق استفتاء الشعب علي إلغاء المواد الخاصة بعملها من الدستور وبالتالي تحويل صلاحياتها لمحكمة النقض كما كانت سابقا !! 3- تصاحب الإجراءات السابقة إجراءات أخرى تتمثل فى الضغط الشعبى والحشد فى الشارع احتجاجا على أداء المحكمة . ما بين الخيار الأول والثانى يبقى القرار فى يد الرئيس الذى –وبدون أدنى شك – الأكثر حرصا على المصلحة العامة واستكمال بناء المؤسسات ومكافحة الفساد ، كما لا شك أيضا فى رغبته فى نجاح مشروعه الإسلامى الثورى والذى تمثل ولاية الرئيس الحالية الفرصة الذهبية لإنجازه على أرض الواقع ( والله غالب على أمره )