كتب - ربيع السعدني وهبة الشافعي قد يفاجأ الكثيرون أن المحكمة الدستورية وهي أعلى سلطة قضائية في مصر، ليست جزءا من السلطة القضائية المنصوص عليها في الفصل الرابع من دستور 71، بل وردت في الباب الخامس، أنها ليست محكمة بل لجنة شكلتها الحكومة ممثلة في رئيس الجمهورية ووضعتها فوق القضاء وعلي رأس المحاكم القضائية المصرية جميعا. وهذا ما أكدته محكمة النقض عام 1974 والجمعية العمومية الطارئة لنادي القضاة والجمعية العمومية لمجلس الدولة والجمعيتين العمومييتن لمحكمتي شمال وجنوب القاهرة عام 1978، ثم مؤتمر نادي القضاة عام 1979 ثم مؤتمر العدالة الأول 1986، وهنا يجب توضيح مجموعة من الحقائق الهامة التي ترصد من خلالها "الوادي" التاريخ الطويل للمحكمة الدستورية عبر 43 عاما، هي عمر المحكمة، الجهة القضائية الوحيدة على مستوى الجمهورية التي شكلها رئيس الجمهورية السابق ورئيس الحزب الوطني المنحل "حسني مبارك"، بينما كافة المحاكم المصرية مشكلة من فبل السلطة القضائية. أنشأها الرئيس جمال عبد الناصر ضمن إجراءات مذبحة القضاء عام 1969 ، وابتدع أسلوبا جديدا مخالفا للقواعد القضائية، حيث أعطى لنفسه سلطة تعيين قضاتها من أي جهة، بالمخالفة لقانون السلطة القضائية التي لا يسمح للسلطة التنفيذية سواء رئيس الجمهورية أو غيره تشكيل أي محكمة، وجعلها تعلو محكمة النقض والمحكمة الإدارية العليا اللتان فصل عبد الناصر العديد من قضاتهما. ومن جانبه أعطى عبد الناصر المحكمة العليا العديد من الاختصاصات التي كانت محجوزة لمحكمة النقض، فجعل لها سلطة إلغاء أي حكم قضائي يصدر من أي محكمة بناء على طلب الوزير المختص. وتوفى عبد الناصر قبل تعيين قضاة المحكمة الدستورية العليا، فعين الرئيس الراحل انور السادات قضاتها لأول مرة عام 1974، وكان رئيسها من التنظيم الطليعي السري، كما صرح بذلك المستشار احمد مكي، نائب رئيس محكمة النقض الأسبق، فعقدت محكمة النقض جمعية عمومية اعتراضا على وجود هذه المحكمة، وأكدت محكمة النقض أنها المحكمة العليا في البلاد. وفي عام 1978 قدم السادات مشروع قانون لمجلس الشعب ينص على تغيير اسم المحكمة العليا إلى المحكمة الدستورية العليا. كما عقد نادي القضاة جمعية عمومية طارئة احتجاجاً على مشروع قانون المحكمة الدستورية العليا، وأكد أنها تعد عدوان على القضاء والمحاكم وانتهاك صارخ للدستور والقانون، لأنها محكمة سياسية ولاؤها للحزب الحاكم، وأكدت توصيات الجمعية العمومية لنادي القضاة أن مشروع قانون المحكمة الدستورية أعطى لرئيس الجمهورية وهو رئيس السلطة التنفيذية سلطة تعيين قضاة المحكمة الدستورية وهو ما يعنى تدخل من السلطة التنفيذية في شؤون السلطة القضائية، وهو أمر مرفوض. وهو ما استنكره المستشار زكريا عبدالعزيز، رئيس نادي القضاة الأسبق الذي أشار إلي أن رئيس الجمهورية من سلطاته تعيين قضاة المحكمة، بعد العرض على مجلس الشعب، وفقا لمشروع القانون آنذاك، وهو ما يعني أن الأغلبية البرلمانية المنتمية للحزب الحاكم هي التي ستعين قضاة المحكمة الدستورية، وهو ما يجعل ولاء قضاة المحكمة الدستورية للحزب الحاكم، وفيما بعد أصبح الرئيس السابق "حسني مبارك" رئيس الحزب الوطني المنحل، هو الذي يعين قضاة المحكمة. وأكد رئيس نادي القضاة الأسبق أن المحكمة الدستورية تمثل اعتداءا على الأحكام القضائية النهائية الصادرة من محكمتي النقض والإدارية العليا، لأن القانون أعطى لرئيس المحكمة الدستورية العليا منفردا سلطة وقف تنفيذ أي حكم قضائي بدون مرافعة ولا مذكرات، فيصبح شخص واحد معين من قبل رئيس الجمهورية قادر على إلغاء أي حكم قضائي. كما أوضح المستشار أحمد مكي، نائب رئيس محكمة النقض الاسبق، أن محكمة النقض هي المختصة في تفسير نصوص القانون، وأن إسناد هذه المهمة للمحكمة الدستورية هو ازدواج في الاختصاص، وأن الهدف من ذلك هو أن ينشأ رئيس الجمهورية محكمة تفسر القانون وفقا لأهوائه السياسية ، ويجعل من تفسيرها ملزما لجميع المحاكم. وخلال عام 1978 عقدت الجمعمية العمومية لمجلس الدولة أيضا واعترضت على إنشاء المحكمة الدستورية العليا، وأكدت أنها محكمة سياسية ؤلاؤها الأول للحاكم، وتمثل اعتداءا على الأحكام القضائية والسلطة القضائية. وعقدت الجمعيتان العموميتان لمحكمتي شمال القاهرة وجنوبها، وطالبوا بتعديل مشروع قانون المحكمة الدستورية ومن جانبها أصدرت نقابة المحامين بيانا في ذات العام احتجاجا على إنشاء المحكمة الدستورية العليا لنفس أسباب نادي القضاة. وخلال عام 1979 أقر مجلس الشعب قانون المحكمة الدستورية وهو ما دعي نادي القضاة لعقد مؤتمرا حاشدا للقضاة وأساتذة القانون وكبار المحامين، اعتراضا على إنشاء المحكمة الدستورية ويصفها بأنها لجنة أنشأتها الحكومة لتمرير قرارتها في صورة أحكام قضائية كي يتم نسبتها للقضاء وهو منها بريء. ومن جانبه أكد الدكتور محمد عصفور، أستاذ القانون والقيادي في حزب الوفد،خلال كلمته أمام مؤتمر نادي القضاة إن المحكمة الدستورية عدوان على القضاء وإهدار لكرامته واستقلاله، وأنها أنشأت لتمرير تصرفات شاذة ومنكرة بلغت في كثير من الأحيان حد أخطر الجرائم"، لكن نادي القضاة عقد مؤتمر العدالة الأول عام 1986، وخرج بتوصيات بإلغاء المحكمة الدستورية العليا، إذ لا مبرر لوجودها، ولا يمكن للقضاء أن يستقل إلا بإلغائها. وشهد عام 1987 حكما تاريخيا من قبل المحكمة الدستورية التي قضت بعدم دستورية قانون انتخابات مجلس الشعب وكان به نواب معارضون، ومبارك يحل المجلس بعد استفتاء. وفي ذلك التوقيت أصدرت المحكمة الدستورية حكما بعدم دستورية قانون انتخابات مجلس الشعب عام 1990، لكن "مبارك" تجاهل حكم الدستورية العليا وواصل البرلمان جلساته، في ظل الصمت الغريب من قبل المحكمة وبعد خمسة شهور يدعو الرئيس المخلوع الشعب للاستفتاء على حل مجلس الشعب، لكن المحكمة الدستورية رفضت إلغاء قرار الرئيس السابق "مبارك" بدعوة الشعب للاستفتاء على حل مجلس الشعب أو بقائه، مؤكدة أن قرار مبارك سيادي. ووقعت عام 1990 أحداث تزوير الانتخابات البرلمانية، وإحالة الدعوى للمحكمة الدستورية، لكنها تمتنع عن الفصل فيها لمدة 10 سنوات، حيث أصدرت حكما عام 2000 بعدم دستورية قانون الانتخابات، وكشف فتحي سرور في الخامس عشر من مايو من ذات العام أن "مبارك" ترأس اجتماعات تم الاتفاق فيها على تأجيل حكم المحكمة الدستورية لمدة 6 سنوات، أي أن المحكمة الدستورية تركت برلمانيين مزورين لاكثر من 2190 يوم. وفي عام 2006 أصدرت محكمة النقض برئاسة المستشار حسام الغرياني حكما ببطلان فوز الدكتور زكريا عزمي في مجلس الشعب لعدم وجود إشراف قضائي على الانتخابات التشريعية، وحينها يلجأ رئيس الوزراء للمحكمة الدستورية فتلغي حكم محكمة النقض، ليبقى زكريا عزمي على كرسيه البرلماني. وخلال عام 2007، دعي الرئيس السابق "حسني مبارك " الشعب للاستفتاء على تعديلات دستورية تمهد لتوريث الحكم لنجله جمال، ومحكمة القضاء الإداري تصف الاستفتاء بأنه غير دستوري لعدم وجود إشراف قضائي عليه، وأحالت الدعوى للمحكمة الدستورية للنظر في عدم دستورية الاستفتاء، لكن المحكمة لم تفصل في الدعوى حتى اليوم. وفي عام 2010 أصدرت المحكمة الإدارية العليا حكما ضد البابا شنودة، وهو ما دفع الحكومة للجوء للمحكمة الدستورية حيث أوقف المستشار فاروق سلطان رئيس المحكمة آنذاك الحكم القضائي النهائي الصادر. وعندما كان الدستور ينص على أن مصر دولة اشتراكية، فإن المحكمة حكمت بصحة بيع شركات القطاع العام بالمخالفة للدستور. وأخيرا لا ينسي المصريون الحكم الذي أصدرته الدستورية العليا في الرابع عشر من مايو الماضي ببطلان قانون الانتخابات ومن ثم صار البرلمان منعدم الوجود نظراً لعدم دستورية القانون الذي تمت الانتخابات على أساسه فما بُني على باطل فهو باطل كما جاء في حيثيات الحكم الصادر. وكان من شأنه تعطيل جلسات مجلس الشعب لما يقرب من شهرين حتي تولي الدكتور محمد مرسي رئاسة الجمهورية في الثلاثين من يونيو الماضي بعد آداءه القسم أمام المحكمة الدستورية العليا . ومن جانبه قام الرئيس "مرسي" بإصدار قراره الجمهوري رقم 11 لسنة 2012 في الثامن من الشهر الجاري بعودة مجلس الشعب للعمل وممارسة اختصاصاته التشريعية المنصوص عليها بالمادة 33 من الإعلان الدستوري الصادر في 30 مارس لعام 2011، مع سحب القرار رقم 350 الخاص بحل مجلس الشعب وإجراء انتخابات مبكرة للشعب خلال 60 يومًا، بدءًا من تاريخ موافقة مجلس الشعب على الدستور الجديد. وهو ما اضطر أعضاء الدستورية العليا للرد السريع علي قرار الرئيس، فما لبثت أن أصدرت حكمها النهائي بحل البرلمان للتأكيد علي حكمها السابق ووقف تنفيذ قرار رئيس الجمهورية الصادر، الأمر الذي وصفه العديد من القضاة والمستشارين بأول كارت أصفر للرئيس بإحترام أحكام القضاء ودولة المؤسسات، فضلاً عن بداية الإستقلال الحقيقي عن قرارات النظام الحاكم. وفي ذات السياق أكد المستشار محمد عيد سالم، الأمين العام للمجلس الاعلي للقضاء أن القانون الذي أبطلته المحكمة الدستورية كان يسمح للأحزاب بالترشح على المقاعد الفردية، ومن ثم فرأت المحكمة أن القانون يتعارض مع ما جاء في نصوص الإعلان الدستوري الصادر في الثلاثين من مارس 2011 وأبطلت القانون بالكامل وبناءا على ذلك حكمت ببطلان مجلس الشعب وحله. وأضاف "سالم" أن الإعلان الدستوري المكمل الذي اصدره المجلس الأعلي للقوات المسلحة في السابع عشر من يونيو الماضي، وهو بمثابة دستور مؤقت ينص علي أن البرلمان يكون ثلثي مقاعده بالانتخاب عن طريق القوائم الحزبية ويكون الثلث الآخر عن طريق النظام الفردي وقد طالب البعض بإبطال ثلث البرلمان المنتخب بالنظام الفردي فقط لأنه هو المشكلة وغير الدستوري ولكن المحكمة الدستورية العليا رأت بأن ترشيح الأحزاب على المقاعد الفردية يؤثر على العملية الانتخابية ككل ويتوجب إعادة الانتخابات بالكامل. ومن جهته انتقد المستشار محمد حامد الجمل، رئيس مجلس الدولة الأسبق أعضاء المحكمة الدستورية الذين ليس من اختصاصاتهما إصدار أحكام إدارية مثل حل البرلمان بقدر ما تقتصر علي الفصل في دستورية القوانين من عدمها، فضلا عن أن كل أعضائها تم تعيينهم من قبل الرئيس المخلوع "حسني مبارك". واتهم "الجمل" الدستورية العليا بتسييس الاحكام القضائية لمحاباة المجلس العسكري علي حساب قيم العدالة من أجل استمراره في امتلاك السلطة التشريعية، نظرا لغياب البرلمان وحله بحكم الدستورية، علي الرغم من وجود رئيس جديد للبلاد، ولكن الاعلان الدستوري المكمل يمنحه تلك الصلاحيات التشريعية حتي وضع الدستور وانتخاب برلمان جديد.