لم يكن خفض سعر الفائدة بمقدار 1% مجرد قرار نقدي جديد، بقدر ما كان اختبارًا لاتجاه السياسة الاقتصادية في مرحلة بالغة الحساسية؛ وتأكيدًا من البنك المركزي على نهج يضبط الإيقاع أكثر مما يغير الاتجاه، في اقتصاد خرج لتوه من دورة تشديد قاسية، ويبحث عن توازن بين كلفة الاستقرار ومطلب النمو. فالقرار امتدادًا لمسار دفع تدريجي بلغ إجمالي خفض الفائدة خلال العام نحو 7.25%، في إشارة إلى قناعة متنامية بأن مرحلة كبح الضغوط التضخمية أدت دورها الأساسي، وأن الاقتصاد بات يمتلك مناعة أكبر أمام الصدمات، والوقت قد حان لقدر محسوب من التيسير يدعم الطلب والاستثمار، دون التحول أو الدخول إلى منعطفات حادة، بل إلى انتقال هادئ من إدارة الأزمة إلى إدارة التعافي. في أي اقتصاد، يبدأ أثر أي تحول نقدي من نقطة بسيطة لكنها حاسمة هي "سلوك المستهلك"؛ فخفض تكلفة الاقتراض لا يعني فقط تراجعًا حسابيًا في أقساط القروض، بل يفتح هامشًا أوسع أمام الأسر لإعادة ترتيب أولوياتها المالية بعد فترة طويلة من الضغط، هذا الهامش - وإن كان محدودًا- قد يخفف وطأة الالتزامات الشهرية، ويعيد جزءًا من القدرة الشرائية التي تآكلت خلال دورة التشديد النقدي، ما ينعكس تدريجيًا على مستويات الإنفاق الاستهلاكي التي شهدت انكماشًا ملحوظًا خلال الفترات الماضية. صحيح أن التضخم لا يزال عنصرًا كابحًا، وأن الأثر لن يكون فوريًا أو واسع النطاق، إلا أن تحسن السيولة المتاحة لدى الأسر قد يمنح الأسواق جرعة ثقة أولية، خصوصًا في القطاعات الأكثر ارتباطًا بالطلب المحلي مثل التجزئة والخدمات. فما يهم حقًا ليس ما يفعله القرار اليوم، بل ما يقوله وما يبعثه عن الغد، فليست القرارات النقدية المؤثرة تلك التي تُحدث صدمة فورية، بل تلك التي تعيد تشكيل التوقعات، ومن هذه الزاوية يقرأ المستثمر المحلي الخفض الأخير كإشارة إلى أن دورة التشديد بلغت نهايتها، وأن تكلفة التمويل- التي قيّدت قرارات التوسع طويلًا- بدأت في التراجع التدريجي. هذه الإشارة وحدها كفيلة بإعادة فتح ملفات استثمارية كانت مجمدة، من زيادة الطاقة الإنتاجية، إلى تحديث خطوط التشغيل، وصولًا إلى ضخ استثمارات جديدة كانت تنتظر وضوح الرؤية النقدية. فهذا التحول يمنح مساحة أوسع للتخطيط متوسط الأجل، ويعيد قدرًا من اليقين إلى حسابات الجدوى، خصوصًا في القطاعات كثيفة التمويل التي تعتمد على الائتمان كوقود للنمو. ومع كل خفض إضافي محسوب، تتعزز قابلية الشركات لتحويل الحذر إلى توسع، والانكماش الدفاعي إلى استثمار انتقائي. لا يقف أثر خفض الفائدة عند حدود الأسواق أو الشركات فقط، بل يمتد مباشرةً إلى قلب السياسة المالية العامة، حيث تبدأ كلفة الاقتراض في التراجع تدريجيًا، مانحة الموازنة هامش حركة كانت تفتقده خلال سنوات التشديد. هذا الهامش لا يُترجم فورًا إلى وفورات كبيرة، لكنه يغيّر الحسابات على المدى المتوسط، ويخفف الضغط عن بند خدمة الدين، في لحظة لا تزال فيها الفجوة التمويلية تمثل أحد أكبر التحديات. والأهمية هنا أن هذا المسار يمنح الدولة قدرة أكبر على إعادة توجيه الموارد، بما يخلق بيئة أكثر ملاءمةً لطموحات المستثمرين؛ فكل تراجع في كلفة التمويل السيادي ينعكس -بفارق زمني- على أسعار العائد في السوق ككل، مما يسهل على الشركات تمويل خطط التوسع، ويعزز جدوى الاستثمارات طويلة الأجل. صحيح أن أسعار الفائدة لا تزال عند مستويات مرتفعة مقارنة بعدد من الاقتصادات النظيرة، لكن خفضها الأخير يحمل ما هو أبعد من أثره الرقمي؛ فهو إشارة عملية إلى أن مرحلة الذروة النقدية قد انقضت، وأن تكلفة التمويل بدأت تدخل مسارًا نحو الهبوط. فالأمل، هنا ليس مبني على الخفض الأخير بل على استمرارية نهج البنك المركزي، فكل خطوة تيسير إضافية مدفوعة ببيانات تضخم أكثر استقرارًا ونشاط اقتصادي متماسك، تعزز ثقة المستثمر بأن السياسة النقدية باتت شريكًا في النمو وقادرة على تحويل الترقب إلى استثمار، والتوسع من قرار مؤجل إلى واقع اقتصادي يدعم نموًا أكثر استدامة.