أليس من حق إثيوبيا وهى واحدة من أهم دول حوض نهر النيل ال11، أن تستفيد من مياهه فى التنمية طالما لن تضر حصة وحقوق مصر التاريخية فيه؟ هناك من يدفع باتجاه التصعيد وإلى حد المطالبة بعمل عسكرى، وإذا كانت نوايا هؤلاء هى الحرص على المصلحة الوطنية فيمكن تفهم غضبهم، لكن إذا كانوا يفعلون ذلك فى إطار الصراع السياسى الداخلى، فإن عليهم أن يكونوا أكثر هدوءًا، لأن القضية أكبر من أى نظام حاكم، فهى قضية قومية، وأى توتر للعلاقات مع إثيوبيا سينعكس على علاقاتنا مع 8 دول أخرى ستتضامن معها - مصر ستجد إلى جوارها السودان وإريتريا فقط - وهذا الأمر سيكون كارثيًا. هناك اتفاقيات دولية تحفظ حقوق مصر فى مياه النيل، وهناك قوانين دولية يمكن اللجوء إليها لو تعمدت إثيوبيا أو أي من دول الحوض الإضرار بمصالح مصر المشروعة، وهى تمنح مصر حق الفيتو على أى مشروعات تؤثر عليها، لكن مع ذلك لابد من الحوار الإيجابى مع دول الحوض جميعًا، وعلى رأسهم إثيوبيا للوصول لحلول مقبولة تجعل أديس أبابا ومن تريد من بلدان الحوض الاستفادة من المياه الكثيرة المهدرة للنهر، وهناك مشروعات يمكن أن تقام على الجزء الذى يمر بالسودان لتعظيم استفادة مصر، ومنها قناة "جونجلي" التى توقفت بسبب الحرب الأهلية، لكن بعد إنشاء دولة جنوب السودان صارت هناك ضرورة لإحياء المشروع. هناك منطق تطرحه دول الحوض الموقعة على اتفاق "عنتيبي" الذى تتحفظ عليه مصر والسودان حتى اليوم، وهو أن اتفاقية عام 1929 تمت بين الاستعمار البريطانى لدول الحوض وبين مصر - كانت هى الأخرى خاضعة لنفس الاحتلال - لكن الوضع تغير اليوم وصارت هذه البلدان مستقلة ذات سيادة وهذا يتطلب - حسب رؤيتها - إعادة النظر فى الاتفاقية فى إطار كونها صارت صاحبة إرادة ولحماية مصالحها المستجدة. النهر ليس ملكًَا لبلد معين، بل هو هبة إلهية ليستفيد منه نحو 300 مليون هم سكان دول الحوض دونما جلب أضرار لهذا البلد أو ذاك، إنما بالتفاهم المشترك وهو يكفى ويفيض لو أحسن استثماره. على مصر أن تدرك أن لها مصلحة حياتية مع دول الحوض، وهذا يتطلب الكف عن التعامل معها بعنجهية أو تجاهل أو إهمال، كما حصل خلال الأربعين سنة الأخيرة، وقد عبر عن ذلك كاتب إثيوبى لكنه تجاوز حدود اللياقة، عندما قال "كسرنا العنجهية المصرية"، فلن نتقدم خطوة للأمام، ولن نصحح أوضاعنا وعلاقاتنا مع الآخرين ما لم نعترف بأخطائنا وما لم نحل العقد التى تتحكم فى سلوكنا دولة وشعبًا، ومنها عقدة الفوقية مع الأفارقة، وعقدة الريادة والشقيقة الكبرى مع العرب. صحيح أن لمصر تاريخًا وحضارة وإنجازات وريادة، لكن الصحيح أيضًا أن الصغير صار كبيرًا، وأن المتخلف بات يتقدم، وأن البلدان التى لم يكن لها ذكر صارت محط الأنظار، وأن الدور لم يعد منوطًا بالمساحة الجغرافية ولا بالكثافة السكانية، بل بامتلاك أدوات التأثير والفعل، وإثيوبيا التى كانت تضربها المجاعات ويأكل أبناؤها أوراق الشجر تدشن نموذجًا تنمويًا مدهشًا، وليس صدفة أن تسمى السد الذى تبنيه على النيل ب"سد النهضة"، فهو يعكس حقيقة نهوض هذا البلد. وهناك رواندا التى خاضت حربًا مع جارتها بوروندى عام 1994 سقط خلالها مليون قتيل، مما أعادنا إلى زمن البرابرة، لكنها اليوم وحسب زيارة أخيرة للداعية عمرو خالد وجدها أجمل وأنظف من مصر. بمجرد أن يبدأ البلد الإفريقى انتهاج طريق الديمقراطية فى الحكم ويقلع عن الانقلابات العسكرية، فإنه ينطلق على طريق الإصلاح والتطور. الجيولوجى الكبير الراحل الدكتور رشدى سعيد، قال إن البلدان التى تنبع منها الأنهار ستطالب يومًا ببيع المياه للدول التى تستفيد منها، باعتبارها ثروة طبيعية ملكًا لها قياسًا على البلدان الغنية بالنفط والغاز والذى تبيعه للعالم، ودول المنبع لم تطرح بيع المياه، إنما فقط الاستفادة منها، ويجب أن نتحوط من اليوم لفرضية تسويق المياه مستقبلاًَ، وذلك بحسن العلاقات خصوصًَا، وأن مصر ليست بلدًا مطيرًا وما زالت زراعية. مليس زيناوى رئيس وزراء إثيوبيا القوى الراحل كانت له تصريحات عنيفة ضد النظام السابق بسبب "الجلافة" فى التعامل مع قضية المياه، لكن بعد رحيل مبارك ونهج مصر لمسار مختلف وقيام وفد شعبى بزيارات لأوغندا وكينيا وإثيوبيا، فإن لهجة زيناوى تغيرت كما أن القادة الآخرين أظهروا حرصًا على مصر دولة وشعبًا وعدم معاداتها، ويوم الثلاثاء الماضى بثت وكالة أنباء الشرق الأوسط حوارًا مهمًا لوزير خارجية إثيوبيا برهان جبر كريستوس، أكد فيه أن بلاده لا تمتلك نهر النيل ولا يمكن أن تفكر فى الإضرار بالشعب المصرى، كما تضمن الحوار مواقف كثيرة ممتازة لا يشتم منها رائحة مؤامرة أو عدوان على مصر أو سلب حقها فى المياه، وسد النهضة الذى يثير هذه الضجة ليس هدفه الزراعة، إنما توليد الكهرباء، وهى ستكون فائضة عن حاجة إثيوبيا، ويمكن أن تستفيد منها مصر والسودان، كما قال الوزير الإثيوبي. نحن دولة مصب، وعلينا أن ندرك ذلك، وعلينا أيضًا أن ندرك أن هناك 10 دول أخرى تشاركنا النهر، وبالتالى لا مجال إلا بجلوس الجميع على مائدة الحوار، للتوصل إلى صيغة جديدة مرضية فى توزيع المياه، وبما لا ينتقص من حقوق مصر. ولا يجب أن يفكر أحد فى عمل عسكرى ضد إثيوبيا، لأن ذلك سيحولها إلى عدو شرس لنا، وسيجند إفريقيا ضدنا وبالتبعية المجتمع الدولي، وستكون حربًا خاسرة لأن مضارها أكثر من فوائدها، وبدلاً من بناء سد واحد ستُبنى سدود فيها وفى دول المنبع الأخرى. السلام وليس خيار آخر هو طريقنا الآمن لدول حوض النيل وإفريقيا والعالم. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.