أرسل بعض أصدقاء المصريون رسائل خاصة على البريد الالكتروني يعتبون علينا فيها ما تصوروه أنه موقف سلبي من الدكتور محمد البرادعي ، ويناشدوننا التريث في الحكم عليه وأن نشارك كثيرا من القوى الوطنية تفاؤلها بالرجل ودعمها له ، والحقيقة أننا لا نتخذ موقفا سلبيا من البرادعي أبدا ، وإن كانت هناك آراء نقدية لبعض تصريحاته ، فهذا حق كل كاتب وكل حريص على مستقبل البلد ، وينبغي أن ندرك بداية أن الوعي المصري قد تجاوز مرحلة المراهقة السياسية التي تحركه فيها الخطابات الفخمة الضخمة و"الكلام الكبير" والعبارات الساخنة وادعاءات البطولة أمام الميكروفونات والشاشات أو على صفحات الصحف ، الوعي المصري الآن ، بشيوخه وشبابه ونسائه ورجاله أصبح قادرا على التمييز واختبار مصداقية من يتصدى للعمل العام أو النشاط العام ، وخاصة العمل السياسي ، ومن الطبيعي في عمليات الفرز أن تتعدد وجهات النظر وكذلك من الطبيعي لشعب أهدر السياسيون أكثر من نصف قرن من حياته في الهدر والتهريج أن يكون أكثر حذرا في المستقبل مع أي خطاب سياسي يطرحه قائد مفترض للمرحلة ، لم يعد المصريون بحاجة إلى "زعماء" وإنما إلى "مسؤولين" ، ولم تعد أزمة مصر في البحث عن "بطل" وقائد تاريخي ، وإنما أزمتها في البحث عن "إدارجي" رائع يستطيع أن يعيد هيكلة بنية الدولة ومؤسساتها بعقلية احترافية وجادة وحديثة وشفافة ونزيهة ، البطولة التي تنتظرها مصر الآن ليست في "شخص" وإنما في "برنامج" وخطة إنقاذ وطني شاملة ، أيا كان الشخص الذي يقوم عليها ، ومن هنا كان من الضروري أن ننظر إلى "البرنامج" الذي يتبلور منذ أسابيع في خطاب الدكتور محمد البرادعي ، ومن الأمانة أيضا أن نمارس رؤى نقدية مسؤولة تجاه هذا البرنامج وأن نحذر الرجل مما نراه خطأ أو خطرا في بعض ما يتجه إليه أو يتحدث عنه ، وللأمانة فإن الوضع المزري الذي وصلت إليه البلاد خلال الأعوام الأخيرة يدفعنا إلى الترحيب بأي جهد إصلاحي جاد ومسؤول ، حتى ولو اختلفنا مع صاحبه في قضية أو أكثر ، وبدون شك فإن الخبرات والصفات التي تميز بها البرادعي تجعل منه أملا حقيقيا للإصلاح في مصر ، تحت شروط معينة ، وهو يحمل من الصفات الشخصية ما يجعله أهلا لإدارة شؤون مصر بكفاءة ونزاهة ، وقد كان بوسعه أن يعود بعد هذا العمر وتلك التجربة والشهرة ، ليهنأ بمنصب هنا أو وزارة هناك ، كما فعل غيره ويقضي ما تبقى من عمره في استرخاء ودعة ، ولكن اختياره طريق المزاحمة والمتاعب والنضال السياسي في بلد معقد ونظام سياسي منغلق مثل مصر ، يجعلنا أكثر احتراما لشخصه ونبله وهمه بمستقبل وطنه ومتاعب شعبه ، ولا ينبغي أن تؤخذ كلمات النقد أو الاحتجاج التي صدرت والتي ستصدر من هنا وهناك ضد الرجل أو بعض مواقفه على محمل الخصومة السياسية ، وإنما هي من باب المناصحة والمشاركة والحرص على قيمة الرجل ودوره من أن يحترق سريعا قبل أن يحرك شيئا في "الكتلة الجامدة" في الدولة المصرية ، وأن ينجز ولو بعضا من رؤيته الإصلاحية في مصر ، وأي إصلاح سياسي في دولة لا يمكن أن يتم إلا عبر دعم شعبي واسع وقاعدة جماهيرية تحقق توافقا على برنامج إصلاحي ، ومن هنا كانت النصيحة للدكتور محمد البرادعي بأن يتجاوز مرحلة التعايش مع خطاب وأفكار ومشاعر "نخبة" صغيره خارج الوطن ، ليدرك أنه الآن في مواجهة خطابات وأفكار ومشاعر قاعدة جماهيرية ضخمة من ملايين المصريين ، لها أشواقها ومحرماتها ومطالبها وحساسياتها التي تختلف عما عايشه من قبل ، وما لم ينجح في احتوائها واكتساب احترامها وثقتها ودعمها لبرنامجه الإصلاحي ، فلن يفلح في فعل شيء في مصر ، وسيتحول إلى مجرد "ريشة" في هواء السياسة المصرية ، وأنيس سمر في بعض "الصالونات" الثقافية والسياسية ، ونجما لطيفا في شاشات الفضائيات الخاصة ، مع نجوم السينما والأهلي والزمالك . [email protected]