تكلمت في مقال سابق عن النشاط الصناعي الرسمي وضوابطه التشريعية، و غير الرسمي وإخطاره وإضراره ودوافعي للبدء بذلك النشاط دون غيره من قطاعات الاقتصاد بوصفه أهم الأركان الركينة للاقتصاد وقاطرة النمو والتقدم والدفع بباقي القطاعات ُقُدُمًا فهو بمثابة النشاط القائد، وأتناول في هذا المقال لقطاعٍ آخر، وهو التجارة وأخص فيها الأدوية سواء المحلية أو المستوردة، وعلى نفس مسار المقال السابق أبدأ بعرض أهم الضوابط القانونية التي تحكم هذا النشاط وهما قانونا الصيدلة رقم (127) لسنة 1955 وقمع الغش والتدليس رقم(281) لسنة 1945 ، وأهم الأجهزة الرقابية هي إدارة التفتيش الصيدلي التابعة لوزارة الصحة ومصلحتي مباحث التموين والمخدرات التابعة لوزارة الداخلية، التي يقع على كاهلهما واجب وطني كبير وخطير يجب تأديته بكفاءة وكفاية، كما يترتب على النكوص عنه أخطار مميتة لبني وطنهم. وباستعراض ما جرى في السوق المحلي السنوات الماضية - وبالذات العامين السابقين- على مستوى الجمهورية من تجارة الأدوية المغشوشة نرى توحش مافيا غش الأدوية التي يتزعمها بعض رجال الأعمال الفاسدين، حيث يتم تجميع الأدوية منتهية الصلاحية من الصيدليات وبعض مصانع شركات الأدوية ويجرى إعادة تعبئتها في أوعية جديدة يلصق عليها تواريخ صلاحية مزورة، حيث يتم إعادة طرحها للبيع مرة أخرى برغم انتهاء صلاحيته معظمها وتحول الأخرى لسموم قاتله، كما ينتشر في المحافظات البعيدة أدوية يتم تصنيعها بطرق بدائية وخامات رديئة وتطرح بأسعار رخيصة نسبيًا، وذلك باستغلال حاجة الطبقات الفقيرة للعلاج وعدم مقدرتهم المادية، ووفقًا للإحصائيات المنشورة فإنه تقدر قيمة حجم هذه التجارة للعامين المنقضيين بنحو ستة مليارات جنيه، وتشير الروايات الشائعة في مجتمع هذه التجارة المحرمة إلى سعي مندوبي بيع وتسويق تلك الأدوية إلى عيادات العديد من الأطباء والاتفاق معهم على تدوينها بتذاكر المرضى الطبية مقابل تقاضيهم عمولة تتراوح بين 20% إلى 30%، علمًا بأن تلك الاتفاقات المحرمة تطال - أيضًا- الأدوية المستوردة المهربة التي من إنتاج شركات عالمية تتهرب من تسجيل الأدوية بوزارة الصحة المصرية، وتشير إحصائيات منظمة الصحة العالمية إلى أن قيمة تلك الأدوية المغشوشة المتداولة في أسواق الدول النامية بنحو 75 مليار دولار بما يعادل نسبة 30% من مبيعات الدواء في العالم، وقد تسبب ذلك في حدوث وفيات على الصعيد العالمي تُقَدَرها - المنظمة- ما بين نصف إلى مليون شخص سنويًا وفضلًا عن ما سبق ذكره من وسائل غش الدواء يذكر البعض - الطامة الكبرى- أن هناك من يستخدم المواد الأسمنتية والأتربة والعوادم داخل كبسولات الدواء المغشوش، وأرى من الظلم البَيِنْ إلقاء التبعة بكاملها على الأجهزة الرقابية فقط ، بل إن للدولة ممثله في الحكومة، بالإضافة للمجلس النيابي أدوارًا مهمة تدعم بها أجهزة الرقابة يجب أن تنهض بها، تتلخص في النقاط التالية:-- - العمل الدائم على تطوير التشريعات - سواء الإجرائية أو العقابية - بما يتلاءم مع المجريات والمتغيرات الميدانية محليًا وعالميًا. - تفعيل توصيات المؤتمر العربي الدولي الذي عقد بمدينة كفر الشيخ المصرية في إبريل 2013 في سبيل إنشاء هيئة عربية موحدة للرقابة على الدواء تحت مظلة الجامعة العربية لتوحيد الجهود بصدد التحديات الجسيمة المتعلقة بانتشار الأدوية المغشوشة في كثير من البلدان العربية، وكذلك إنشاء بنك معلومات عربي يشتمل على قواعد بيانات لمكافحة غش الدواء. -الاستفادة من التجربة السعودية الرائدة التي أنشأت هيئة وطنية لمراقبة سلامة الغذاء والدواء وأعطتها الصلاحيات الكافية. -توفير الاعتمادات المالية الكافية لإمداد الأجهزة الرقابية بالإعداد الكافية من الإفراد المناسبين والمؤهلين ذوي الكفاءات العالية وتسليحهم بأحدث المعارف والتدريبات وفقًا للمعايير العالمية، نظرًا للتقنيات المعقدة التي تستخدم في غش الأدوية، حيث يشير خبراء أوربيون يعملون بمركز أبحاث العقاقير بجامعة فرانكفورت بألمانيا إلى أن هناك بعض أنواع الأدوية يصعب على الخبراء اكتشاف غشها. -تدشين برامج مبسطة مدروسة جيدًا للتوعية الشعبية تبثها وسائل الإعلام المختلفة لتثقيف المواطنين باتخاذ الإجراءات السليمة للشراء كالشراء من الصيدليات والامتناع عن التعامل الإلكتروني بالشراء عن طريق شبكة الإنترنت أو الخضوع للإعلانات المضللة كذلك بطرق الكشف ظاهريًا على مدى سلامة عبوات الدواء، حيث إن كثيرًا من شركات الدواء - ومنها العالمية- توفر مجموعة إجراءات تأمينية لعلبة الدواء فيوضع شريط الدواء داخل حاوية معدنية آلية الغلق توضع داخل علبة كرتونية تلصق بشريط لاصق غير قابل لإعادة اللصق مرة ثانية بعد نزعه أول مرة. ختامًا لا يفوتنا - بعد عرضنا لتلك الكارثة- إلا أن نذَكِر، فإن الذكرى حتمًا- كما وعد ربنا حقًا - تنفع المؤمنين، إن المولى - جلت قدرته- نهى في كتابه العظيم القرآن الكريم في العديد من الآيات المحكمات عن الغش والفساد في الأرض، فضلًا عن السنة النبوية المطهرة التي حببت في الأمانة وبغضت الخيانة وأفاضت في ترهيب الغشاشين حتى لتكاد تخرجهم من الملة.