قال صديقي: أحييه، فلا يرد. أقول له: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فلا يجيب بأحسن منها ولا بمثلها. أصافحة بحرارة، فيصافحنى ببرود تشعر به فى أطراف أصابعه. أقول له: كيف حالك يا شيخ؟ فيرد: بخير، كيف حالك يا فلان؟ أناديه: يا أستاذ، يا سعادة الأستاذ، أيها الأستاذ الكبير؟ فلا يزيد أن ينادينى باسمي. هكذا من غير ألقاب – كما يقولون - (حاف)، لا أستاذ ولا أخ، ولا شيخ. رغم أنى – والكلام ما زال لصديقى - وإن كنتُ أصغر منه سنًا، فلست أقل عنه علمًا ولا مكانة، وليس من الغرور أن أقول: إننى والحمد لله مع صغر سنى على أقل الأحوال ساويته، وهذا دليل التقدم. إذا قصدته فى أمر، اعتذر، أو تناسى، أو تعلل، فإن فعل فلا بد أن تشعر أن يده هى العليا، مع منّ وأذى، رغم سبق إحسانى إليه. الحياة بالنسبة إليه مسرح كبير، يمارس فيها مواهبه التمثيلية خاصة دور البطل، والبشر من حوله جمهور، كلما زاد، أو علا تصفيقه، أو صدرت آهات إعجابه، كلما أجاد صاحبنا الدور كأحسن ما يكون. والكون عنده مرآة معظمة، لا يرى فيها إلا نفسه، بطلعته البهية، وطلته العلية، ومَن سواه (ديكور) يزيد الخلفية جمالا، لكن عدمه لا يضر. والحوار لديه من جانب واحد، جانبه هو، فإن كان ولا بد فلا بأس أن يسمع صدى صوته يتردد فى أذنيه، وما أجمل وقعه عليه. واللغة العربية فى نظره ليس فيها إلا ضمائر المتكلم، (أنا)، و(نحن)، و(تاء) الفاعل، و(نا) الفاعلين، و(ياء) المتكلم. والعقلاء المتواضعون يستعيذون بالله من (أنا). فكيف بضمير المعظم نفسه (نحن). يريد أن يقول فى كل جملة: أنا هنا، أنا مهم، أنا وبعدى الطوفان، أنا أو يذهب العالم، لا أحد مثلي، كيف كان العالم من قبلي، وكيف سيعيش العالم من بعدي؟ معذور صديقي، يحترم الرجل ويبجله، ويحييه ويعظمه، ويؤستذه ويشيخه - أى يقول له يا أستاذ، ويا شيخ – يدفع بالحسنة، فلا يجد إلا السيئة، رغم أنه لا ينبغى أن يكون جزاء الإحسان إلا مثله، كما علمنا الله فى كتابه: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن:60]. تقرأ سيرة الواحد منهم، فتحسب مجدد القرن قد أتى أوانه، أو المهدى المنتظر قد حضر زمانه. أو تظنه العالم العلامة، والبحر الفهامة، شيخ الأمة ومفتيها الذى أسلمت له رايتها. فإذا عرفته تجده طالب علم ليس أكثر. يدعى دعاوى عريضة بلا بينة، ويتوصل إلى نتائج بلا مقدمات، ويزعم أشياء بلا برهان، وهل هناك برهان أقوى من أنها قد خطرت بباله. كأنما هو مركز الكون، ومبدؤه ومنتهاه، يحسب نفسه أصبر من نوح، وأعلم من الخضر، وأحكم من لقمان، وأقضى من داود، وأفهم من سليمان، وأجمل من يوسف، وأقوى من موسى. عليهم الصلاة والسلام جميعًا. وليس على الله بمستنكر أن يجمع العالم فى واحد ولكن المستنكر هو أن يحسب نفسه ذلك الواحد. أقول لصديقي: استمر فيما أنت فيه، فالغبار الذى يملأ ساحة المعركة سيسكن، والغثاء الذى يعلو وجه السيل سيتبدد، {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى الْأَرْضِ} [الرعد:17]. وأقول لصديق صديقي: تواضع، فسيد الناس يقول عن نفسه: "إنما أنا عبد، آكل كما يأكل العبد". عاش مسكينًا، ومات مسكينًا، وسأل الله أن يحشر فى زمرة المساكين. {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِى خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِى أَى صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:6-8]. تواضع فكم مشى على ظهر الأرض إنسان هو الآن فى بطنها، ما أغنى عنه ماله ولا جماله، ولا جاهه ولا سلطانه، ولا حيلته ولا ذكاؤه، ولم يبق له عند الله إلا العمل الحسن، ولم يبق منه بين الناس إلا الذكر الحسن. والذكر للإنسان عمر ثان.