التشخيص السليم يؤدي إلى علاج سليم، والعكس بالعكس! قاعدة طبية يتعلمها كل طبيب يعالج مريضا أو مديرا يواجه مشكلة! ولا أجد مشكلة أهم ولا أخطر من التي تعيشها مصر هذه الأيام! فمن الواضح للجميع أن مصر على مفترق طرق، وأن هذا الوطن يشق طريقه في بحر لجي متلاطم تأتيه رياح غربية أمريكية وشرقية إيرانية وحدودية إسرائيلية وداخلية إنقاذية! هذا غير موجات وموجات من المشكلات اليومية التي يعاني منها هذا الشعب نتيجة ثلاثين عاما عجاف من حكم كنز إسرائيل الاستراتيجي مبارك! وحيث أنني أفضل تعريفا أثيرا للسياسة لدي، صرحت به أكثر من مرة، وهو "فن معرفة العدو من الصديق"، فإنني أؤكد على هذا التعريف كمنطلق لتشخيص الوضع المصرية أو ما أسميه "المسألة المصرية"! قبل الثورة - وكعادة كل ثورة - اجتمعت كل أطياف المعارضة على معاداة النظام الحاكم وعلى رأسه عائلة مبارك، باستثناء طبعا المعارضة التي اصطنعها مبارك لنفسه! ولكن ما كاد أن يسقط رأس النظام - وكعادة كل ثورة أيضا - حتى اختلف الشركاء الثوار! ليس خلافا في وجهات النظر فقط فهذا طبيعي "ولا يزالون مختلفين ولذلك خلقهم" هود، ولكن اختلاف أجندات ومشاريع يريد أحدها أن يزيح الآخر من الساحة ويأخذ مصر في الاتجاه الذي يريد هو! وحتى لا تصاب بالإحباط، وتظن أن ذلك من حصري على المصريين ومن سوء أخلاقهم دون غيرهم، فلك أن تعلم أن هذا حدث في جميع الثورات بلا استثناء تقريبا! فالثورة الشيوعية وهي واحدة من الثورات العنيفة في التاريخ اجتمع عليها كل أطياف الشعب لما وجدوا فيها من شعارات براقة، الأرض للفلاحين والمصانع للعمال والسلام على الجبهة (يعنون إنهاء الحرب)! ثم لم تمض شهور على وفاة زعيم الثورة لينين تولي ستالين السلطة بعدها وضم قبضته عليها، وأطاح برفاق الأمس ومن بينهم واحد من أهم رفقاء لينين وهو "ليون تروتسكي" الذي كان يلقب "بعقل البلاشفة" فأصدر حكما غيابيا ضده وضد ولده بالإعدام، ولم يهنأ له بال حتى دبر اغتياله في المكسيك عام 1940! وعبد الناصر الذي وضع يده في يد الجميع من ضباط وإخوان وشيوعيين، لم يكد يصل إلى السلطة حتى حل جماعة الإخوان المسلمين وحل الأحزاب جميعها ونفى كل ضابط في مجلس قيادة الثورة رفض أن يستمر العسكر في إدارة البلاد والحنث بالوعود التي رفعوها للشعب وعلى رأسها "إقامة حياة ديمقراطية سليمة"! ومذكرات اللواء محمد نجيب والطيار عبد اللطيف البغدادي وغيرهم من ضباط الثورة مليئة بما يخجل منه كل ثوري! والخميني الذي استقبله الإيرانيون استقبال الأبطال الفاتحين، لم يكد الأمر بعد سقوط الشاه يستتب له حتى انتهى الكلام المعسول عن الديمقراطية والحرية وبدأت أفكار الخميني الحقيقية تظهر في أن الفقيه معصوم ويجمع فعليا بين جميع السلطات – التشريعية والتنفيذية والقضائية - وبدأت الإعدامات تطال رفقاء الثورة بالأمس، والتهم جاهزة! وبعد انتخاب أول رئيس للجمهورية أول الحسن بني صدر بشهور أقاله الخميني وأجرى انتخابات رئاسية جديدة! والثورة المصرية ليست بدعا عن هذه الثورات! فالخطأ الرئيسي الذي وقعت فيه هذه الثورات السابق ذكرها - وغيرها من الثورات كالثورة الفرنسية أيضا – أن الشعوب انتقلت من ديكتاتوريات ثاروا عليها إلى ديكتاتوريات أخرى براقة أحبوها وهللوا لها! وإني لأزعم أن ستالين ولينين لم يكونا على الإطلاق أقل سوء من القيصر، وأن عبد الناصر لم يكن أقل ديكتاتورية من فاروق – بل أكثر – وأن الخميني لم يكن أقل دموية من الشاه، بل أشد! وإذا أردنا جميعا بهذا الوطن خيرا، وبهذه الثورة نجاحا، فإن حجر الزاوية الرئيسي يجب أن ينطلق من بناء مؤسسات منتخبة ديمقراطيا! دون النظر إلى من تأتي به الانتخابات! ويمكنني أن أحصر هذه المؤسسات في أربعة مؤسسات رئيسية: (رئيس منتخب – دستور مستفتى عليه – برلمان منتخب – حكومة منتخبة) وقد قطعنا بفضل الله في عامين نصف المسافة ويتبقى النصف الثاني بمشيئة الله! وإنني أزعم أن كل من يعارض بناء المؤسسات هو شخص عينه على السلطة وليست عينه على الوطن! بل ربما امتزجت قيمة الوطن بذاته فأصبح يرى أن صالح الوطن في مصلحته، ومن يخالفه لا يريد خيرا بالوطن! ولا يعني ذلك أن من يؤيد بناء المؤسسات المنتخبة يؤيد بالضرورة سياسات الحزب أو الشخص الذي تم انتخابه! فالاختلاف سنة من سنن الكون كما قلنا! وقد ضربت أحزاب مصرية مثالا راقيا على اختلافهم مع الرئيس أو حزب الحرية والعدالة في بعض السياسات دون رغبتهم في نقض الغزل وهدم المؤسسة القائمة!! (مثل حزب الوسط وحزب الراية والجماعة الإسلامية وغد الثورة وغيرها). ولكن إذا اختلفنا فإلى من نحتكم؟؟ وإذا تعارضنا فإلى من نعود؟ وأستطيع أن أقول أن أي إجابة أخرى غير الديمقراطية ممثلة بالصناديق هي إجابة تريد الصالح الخاص وليست صالح الوطن! أو تعبر عن التباس ذات بقيمة كما سبق وأن أشرت، ذات الفرد بقيمة الوطن! للأسف وجدنا من يخرج علينا زاعما أننا نختلف مع الإخوان حكما وأفرادا وأننا لن نتبع سبيل الديمقراطية للوصول للسلطة لأن الصناديق ستأتي بالإخوان مهما حدث! (وكأن الهدف هو السلطة ذاتها وليس الديمقراطية!)، وصرح بعضهم أن أي عملية أولها انتخابات آخرها إخوان! وبالتالي لا سبيل لإزاحة الإخوان من المؤسسة المنتخبة سوى الدم والعنف في الشارع، حتى ولو أدى ذلك إلى سقوط المؤسسة المنتخبة ذاتها لا سقوط من انتخبته الصناديق ليكون على رأس المؤسسة فقط! وبدا أن ميكافيللي له أتباع هنا في مصر، يرون نفس ما كان يرى من أن الغاية تبرر الوسيلة! حتى ولو كانت هذه الوسيلة هي الإعلان عن قبول عودة حكم العسكر - بعد أن ناضل الثوار لإبعادهم عن السياسة!! فقط لتيقنهم أنه الوسيلة الوحيدة لإزاحة الإخوان! وتحالفوا مع النظام السابق الذي ثاروا أصلا عليه، ليصبح الفلول ثوارا ويدخلوا التحرير مرفوعين على الأعناق! وطلبوا المعونة الخارجية صراحة وعلى الهواء مباشرة وفي مقالاتهم المنشورة - في جرائد يديها الفلول- لمواجهة الإسلاميين! الإسلاميون الذين أثبت الشعب في خمس انتخابات متتالية أنهم يحظون بثقة الشعب وإن كان بنسب متفاوتة! لقد حصلنا على الديمقراطية بعد الثورة، إلا أننا التفتنا حولنا فلم نجد ديمقراطيين! بل مشاريع متنازعة متصارعة يريد أحدها أن يزيح الآخر من الوجود، ويعلم أصحابها - أو من يقف وراءهم - تاريخ الثورات جيدا وطبيعة شعوبها، وأن الأوطان في مراحل ما بعد الثورات تكون مثل العجينة اللينة الطرية التي يسهل تشكيلها وإلباسها بلباس علماني أو إسلامي أو عسكري أو ديكتاتوري، وأن الوقت ليس في صالحهم أبدا وأن المهمة الآن أصعب من أمس، واليوم أيسر من الغد! وعلى هذا تبدو المسألة المصرية شديدة البساطة وشديدة التعقيد في آن واحد! فالمشكلات التي ورثتها الثورة جمة، والتحديات التي تواجه الثوار لإقامة الجمهورية الثانية كبيرة! وبالرغم من ذلك فإن الحل قد يكون سهلا وبسيطا للغاية لو أعلن القادة السياسيون جميعهم احترامهم الكامل لنتيجة الانتخابات، مع معارضتهم للسياسة القائمة وهذا حقهم، وإدانتهم لأعمال العنف بشتى أنواعها، مع حقهم في التعبير السلمي عن آرائهم وهذا حقهم أيضا! أما لو استمر هؤلاء على نهجهم وغدوا متمسكين بمعادلة (عنف في الشارع + تهييج إعلامي + تخاذل الشرطة= الحكومة أو إجراء انتخابات رئاسية مبكرة) ،فإن الطريق الوحيد لنجاح هذه الثورة يبقى استكمال بقية المؤسسات (برلمان +حكومة منتخبة) حتى تستقر المعادلة السياسية في مصر ونتفرغ لحل مشكلات هذا الوطن الذي يئن شعبه تحت صراعات لا تهمه كثيرا، ويتربص به الأعداء في الداخل والخارج! أرسل مقالك للنشر هنا وتجنب ما يجرح المشاعر والمقدسات والآداب العامة [email protected]