دخلت مصر مرحلة ما بعد مبارك، ومن الأهمية بمكان التعرف علي هذه المرحلة، وكيفية التعامل معها، وعلي افتراض التمكن من فرض التجديد أو التوريث.. بالعنف أو الخديعة أو التزييف، فإن هذا لن يغير من الأمر شيئا، ومن يتابع تسارع الأحداث والتطورات، يوقن بأن حكم الرئيس حسني مبارك قد انتهي، وما ينقصه ليس سوي مشهد الختام، بحيث يخرج بصورة سلمية وبأقل خسارة ممكنة، ومقدمات المشهد تعكس أكثر الدلالات أهمية في التاريخ المصري المعاصر، فناهيك عن احتجاجات كفاية ، ومظاهرات الإخوان المسلمين، وإضرابات أساتذة الجامعات والمحامين والمهندسين، واعتصامات العمال أمام دار القضاء العالي، في قلب العاصمة، ضد استمرار نظام مبارك وطلبا برحيله، ناهيك عن كل هذا.. علينا تأمل موقف واحدة من سلطات الدولة الثلاث، هي السلطة القضائية. فلأول مرة تشهد مصر انسحاب سلطة علي درجة كبيرة من الأهمية، من أن تكون داعمة أو خاضعة للسلطة التنفيذية، وجاء ذلك في صورة تمرد إيجابي، يليق بمقامها، كسلطة سامية منوط بها إقرار القانون، وإعلاء قيمة العدل، كأساس للمُلك. هذا الانسحاب أزاح الأقنعة الشرعية عن الحكم، حتي في جانبها الشكلي. وخلق مأزقا كان من المتصور أن تبادر إلي علاجه السلطة التشريعية، الممثلة في مجلس الشعب، بألا تتخذ موقفا متناقضا مع هذه السلطة الشقيقة، وبدلا من أن تكون ميسرة للتغيير، ليكون أكثر سلاسة، انحازت لشخص رئيس الدولة وعائلته. وعالجت تعديل المادة 76 من الدستور، في جو من التجاهل لحالها هي، كسلطة مطعون فيها قانونيا ودستوريا، إلا أنها من حيث لا تدري أكدت صحة هذه الطعون، بهذا الموقف المنحاز، وكان هذا ما في جعبة فتحي سرور، رئيس مجلس الشعب، وكما ذكرنا من عدة أسابيع أنه كان صاحب فكرة تعديل المادة 76 من الدستور، استجابة لضغوط كوندوليزا رايس، وزيرة الخارجية الأمريكية. مع تعهد بضمان وضع قيود صارمة لا تسمح للجمل بالدخول من ثقب الإبرة ،.. خطط فتحي سرور، ونفذ كمال الشاذلي، بمجموعة ترزية القوانين ، في وزارة شؤون مجلس الشعب التي يتولاها، وتحقق للرئيس ما أراد، وجاء التعديل تعجيزيا. ومثلت لحظة إقرار مجلس الشعب لهذه الصيغة.. لحظة سقوط وانهاء كامل لدوره، وإذا كانت السلطة القضائية قد انسحبت، من الملعب، فإن السلطة التشريعية أبت إلا أن تلعب وحدها في مواجهة الشعب. هذا يعطي المشروعية للمطالبة بحل المجلس ومحاسبة رئيسه وكل من ساهم معه، فهو يعلم كاستاذ القانون، أن ما فعله قابل للتجريم، قانونيا وسياسيا وأخلاقيا. لأن الأصل في التشريع هو الإباحة، أما عندما يتجاوز المشرع بالضوابط التنظيمية والإجرائية، ويستبدلها بقيود تعجيزية، ويضعها في قالب يسمح نظريا بالتعدد، ويطبق الوحدانية عمليا.. فهذا التعدد المزيف، يسقط ورقة التوت الأخيرة، التي تستر بها مجلس مطعون في شرعيته أصلا، وكان معرضا للحل العام في حزيران (يونيو) الماضي، عن طريق استغلال الأحكام الصادرة ضده وإصدار قرار رئاسي بحله، وتشكيل مجلس جديد، يضم (بالتزوير طبعا) مؤيدين ل الرئيس الموازي ، جمال مبارك، وينحسر فيه تأثير الحرس القديم، ليكون أكثر استعدادا للتوريث، إلا أن هناك من حذر من خطر المنافسة بين الأب والإبن، في ظروف كانت تمر بها عائلة الرئيس ، بعد أن أصبح نظام الحكم بعدة رؤوس.. موزعة بين الوالد والوالدة والإبن الأصغر.. وكانت الأولوية هي تخفيف حدة الصراع بين أمانة السياسات التي يرأسها جمال مبارك، وبين الحرس القديم . وصب هذا الجهد في نهر الحرس القديم ومصلحته. لن تنجح المطالبة بحل مجلس الشعب ما لم تكن مصحوبة بكشف الدور الذي لعبه رئيس المجلس، وفتح ملفاته.. فقد كان المساهم الأكبر في تمكين الاستبداد، وصياغة القوانين التي زاوجت بين المال ولسياسة، وجعلت التشريع في خدمة الأنشطة الاقتصادية والمالية المنحرفة والطفيلية، فمكن تجار المخدرات، وغَسَلة الأموال، ونواب القروض والبلطجة والدعارة، مكن كل هؤلاء من دخول البرلمان، للتحصن به، وكان فتحي سرور صاحب الباع الطويل في وضع مجموعة القواعد المشجعة للرئيس حسني مبارك علي تجاوز الدستور والضرب بأحكام القضاء عرض الحائط.. زين له استمرار عدم وجود نائب للرئيس، وبرر رفض أحكام القضاء ضد من دخلوا المجلس بالتزوير، ووضع لذلك تقليعة قانونية تقول: ب أن المجلس سيد قراره ، أي لا ولاية للقضاء عليه. كان من المفترض أن يكون موقف السلطة الشريعية علي نفس مستوي تصرف السلطة القضائية، فيرفض دور المحلل بين هذا الزواج الباطل بين حسني مبارك والحكم. ويقف مؤازرا للقضاة، في مطالبهم باستقلالية سلطتهم، وضمان نزاهة دورهم في انتخابات، تتيح لمصر الفرصة في اختيار الحاكم الذي يليق بها، ويحفظ كرامتها واستقلالها، ويضعها الموضع الصحيح بين الأشقاء والأصدقاء.. حاكم لا يتباهي بأنه شاري دماغه ، لا يقرأ ولا يطلع ولا يتابع، ويكتفي بالعمل علي حد قوله . منطق، يعطينا الحق في أن نسأل: ماهو العمل الذي لا يحتاج إلي معرفة أو ثقافة عامة أو خاصة؟، وهل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟.. القراءة سعة في الأفق، والإطلاع مصدر من مصادر الحكمة، والرئيس الذي لا يقرأ لا يعرف حجم الخطر في مصادرة حق الطعن علي نتائج انتخابات الرئيس، ومن لا يطلع لا يقدر مدي ما ينجم عن تعيين رئيس المحكمة الدستورية، وهو المسؤول عن البت في دستورية القوانين والإجراءات، رئيسا للجنة الانتخابات!! وتسببت عملية شراء الدماغ في حرمان المستقلين من حق الترشيح لمنصب الرئيس!! كان موقف مجمل أعضاء مجلس الشعب معيبا، ولا نستثني منهم الأعضاء المعارضين. كان عليهم أن يستقيلوا، ويخرجوا من دائرة الانتماء إلي سلطة معادية للكل، ويري بعض الخبراء أن ما جري من مجلس الشعب، مع تداعيات أخري، يعرض مصر لمخاطر جمة، ويعرض عائلة الرئيس مبارك نفسها لمصير عائلة شاوشسكو في رومانيا، ونحن ممن يستبعدون ذلك ولا يتمنونه، لأسباب منها: أن الرغبة في طي ملف شاوشيسكو، بعد الدور الذي قام به في غواية السادات، بالسفر إلي الدولة الصهيونية، والأسرار التي كانت تلف هذه الخطوة. هذه الرغبة ليست ملحة بنفس الدرجة مع الرئيس حسني مبارك، فما كان يقوم به شاوشيسكو سرا، ويحتاج الإخفاء في ظروف ذلك الزمان، يقوم به الرئيس حسني مبارك علنا، ولا يحتاج للإخفاء. هذا بجانب وجود رغبة أمريكية، كانت بارزة، في ذلك الوقت، لترويع الكتلة الاشتراكية السابقة، بجانب أسباب أخري كثيرة جعلت شاوشيسكو التابع المطيع هو الأسهل الذي يمكن التضحية به عبرة للذين يرفعون راية العصيان علي الطاعة الأمريكية، وقد توفر بعض هذا في حالة صدام حسين، بالغت قوات الإحتلال الأمريكية في إهانته، لإذلال العرب والمسلمين، وليكون عبرة لغيره من الحكام. ورغم ضعف هذا الاحتمال علينا أخذه علي محمل الجد، خاصة أنه يتداول في أوساط غربية، وهذا يقتضي بذل الجهد لتجنب وقوعه، ويتأتي ذلك بقناعة مشتركة بين عائلة الرئيس وأطراف المعادلة السياسية الداخلية، فعلي العائلة التسليم بانتهاء الدور، وعلي الأطراف الأخري الإقرار بأن إخراج مشهد النهاية يحتاج حكمة كل العقلاء، إذا وجد مثل هؤلاء في الحكم، مع غيرهم خارجه. علي الجميع أن يعلموا أن العمل السياسي مثله مثل العرض المسرحي.. لا يستمر بلا جمهور، يتوقف إذا غاب النظارة. وإذا ما أصر البطل علي الاستمرار، فإنه يتحدث إلي نفسه، ويستمع لصدي صوته، وحتي البطانة.. أي الكومبارس .. تنفض، إما بحثا عن مسرح جديد، أو الاعتزال، إيثارا للسلامة وحفظا لماء الوجه. وعلي الرئيس مبارك وعائلته أن يعوا أن تأجيل مشهد الختام يفتح الأبواب أمام سيناريوهات ، قد تضاعف من مأزقهم، ولا تساعد علي حله. لا يجب أن يتم التعامل مع المشهد بمعزل عن البحث عن مخرج في مسألة تحديد مصير عائلة الرئيس . واستثمار السلوك المصري العام، المعروف بالتعقل والانضباط والنضج أثناء الأزمات، لإيجاد مثل هذا المخرج. ونماذجه كثيرة، لعل منها ما كان من حرص الثوار الشبان في 1952، بعد أن أجبروا الملك فاروق علي التنازل عن العرش، ودعوه، وهو في طريقه إلي المنفي، بكل مظاهر التبجيل والاحترام، والاحتمال الأكبر وراء تشبث عائلة الرئيس بالحكم مصدره الخوف في مواجهة مشهد الختام وتداعياته، خاصة إذا لم تتمكن من استثمار اللحظة المناسبة، وكي يتم تجنب السيناريو الروماني أو غيره، فعلي القوي الراغبة في التغيير الديمقراطي أن تحول دون وقوع عائلة الرئيس في قبضة جمهور غاضب، تسيطر عليه روح الانتقام، بسبب تجاوزات حدثت، وثارات تتعلق بالتصفيات الجسدية وإعدامات شباب الجماعات الإسلامية في التسعينات، فضلا عن ثارات مئة ألف ممن صدرت في حقهم أوامر اعتقال، علي مدي سنوات الحكم، من بينهم عشرون ألف معتقل، دون تحقيق أو محاكمة لمدد زادت علي عشر سنوات، هذا غير ثارات التعذيب الدائم، الذي عم الناس، في أقسام ومراكز الشرطة والأمن وضحاياه، وكذلك ثارات عودة الإقطاع والتنكيل بالفلاحين، في محافظات الوجهين البحري والقبلي، وثارات الإبادة المنظمة للمصريين، بنشر الأوبئة، خاصة مرض الكبد الوبائي، المعروف باسم هبيتايتس سي ، وضحايا استيراد المواد الزراعية المسرطنة بمعرفة جهات رسمية في الدولة، وحازت علي موافقة الرئيس، حسب ما هو منسوب ليوسف والي الذي تابع عمليات الاستيراد!!. يجب أن ينتهي مشهد الختام بأقل قدر الخسائر. وتتشكل من أجل ذلك هيئة وطنية، تمثل طوائف الشعب، ترتب عمليات التسليم والتسلم، وتحصر ثروة الرئيس وعائلته.. تُبْقي علي ما هو مشروع، وتسترد ما هو غير ذلك، وتودعه في خزانة الدولة، هذا مع العلم بأن أحاديثا بدأت تتردد في الأوساط الصحافية البريطانية، في الأيام الأخيرة، عن ثروة الرئيس حسني مبارك، وتدعي بأنه مصنف بين العشرة الأكثر ثراء في العالم، وهذا يذكرنا بتصنيف قديم وضع السادات بين العشرة الأكثر أناقة (الأشيك) في العالم!!، ويبدو أن مصر قد كتب عليها الانتقال، خلال الثلث قرن الماضي، من زمن الأناقة الزائدة، إلي عصر الثراء الفاحش، للحكام طبعا!!.