منذ أعلن الرئيس حسني مبارك في 26 شباط (فبراير) الماضي تعديل المادة (76) من الدستور الخاصة بانتخاب رئيس الجمهورية عن طريق الاستفتاء العام، ومصر تعيش جدلا فكريا وحراكا سياسيا غير مسبوقين منذ أزمة اذار (مارس) 1954. وفي القاهرة التقيت كتابا واعلاميين ونشطاء سياسيين تباينت رؤاهم في توصيف الواقع المصري، كما تعددت اجتهاداتهم في استقراء احتمالات المستقبل، وإن أجمع غالبيتهم علي أن مصر مقبلة علي تغيير جذري ستكون له تداعياته في المحيط العربي. فهناك من يري ان مصر تمر بما وصلت اليه الحال سنة 1951 من حيث انسداد آفاق التغيير بالاسلوب الديمقراطي، نتيجة جمود النظام الملكي وعجز النظام الحزبي عن تقديم الاستجابة الفاعلة في مواجهة القضية الوطنية، والتصدي لتفاقم المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، وتداعيات الهزيمة المذلة في فلسطين. وهناك من يقرر ان واقع مصر اليوم مختلف كيفيا عما كانه يومذاك، وبخاصة بالنسبة للجيش، كما بالنسبة لعمق وسعة التغلغل الامريكي في شرايين مصر السياسية والاقتصادية وحتي الفكرية، وأن الواقع الراهن اقرب لحالة الاحتقان التي شهدتها السنة الاخيرة من عهد الرئيس السادات، والتي بلغت ذروتها باعتقالات أيلول (سبتمبر) 1981. في حين ذهب بعضهم الي أن النظام بمصر يواجه الاختبار الأصعب حول الاصلاح الامريكي. وفي جلسة ضمت سياسيا مخضرما قال: لا شك أن الواقع الراهن اشد تأزما وبؤسا مما وصلت اليه الحال اواخر عهد فاروق وفي السنة الاخيرة لرئاسة السادات. وأضاف موضحا: انتهي قبل أيام المؤتمر الرابع والعشرون للجمعية المصرية للاقتصاد السياسي والاحصاء والتشريع، والذي شارك فيه ابرز خبراء الاقتصاد المصري. وكان مما قالوه حول اداء سنوات 1981 2005، أن معدلات النمو وصلت ادني درجات الانخفاض التي لم يشهدها الاقتصاد المصري عبر تاريخه، وأن الجنيه فقد خلالها 86 % من قيمته مقابل الدولار، وأن الحكومات المتعاقبة بسطت يدها لارضاء فئات معينة دفع ثمنها الاقتصاد الوطني في موجات التضخم، وأن نسبة الاحتياطيات القانونية التي يحتفظ بها البنك المركزي لا تغطي الديون المشكوك في تحصيلها، وأن الفقير تحمل وحده عبء غلاء الاسعار والضرائب غير المباشرة التي فرضت لعلاج عجز الميزانية وتغطية فشل الحكومات في إدارة السياسات الاقتصادية واتباعها لتوصيات البنك والصندوق الدوليين. وفي بيان معوقات التغيير قال استاذ جامعي معروف: لمصر دور محوري في محيطها الاقليمي، وفي المشرق العربي خاصة. ولقد انتهي اكثر من باحث مختص الي أنه كلما نمت قدراتها وطنيا تعاظم دورها القومي وتفاعلت مع زعامات المشرق العربي وقواه المجتمعية. في حين انها كلما انكفأت داخل حدودها القطرية تشرذم المشرق العربي وشاعت فيه النزاعات اللاموضوعية، ثم ارتد الوهن علي مصر. ونحن نعيش احدي هذه الحالات عربيا ومصريا، ولا أحسب ان التحالف الامريكي الصهيوني المستفيد الاول من غياب الدور المصري يمكن ان يتيح الفرصة للقوي الوطنية المصرية ان تستعيد دورها الفاعل، برغم كل الضجيج حول الاصلاح و الديمقراطية الذي تمارسه الادارة الامريكية. قلت: لا انكر التغول الامريكي ولكن الارادة الامريكية ليست بالقدر الذي لا يرد، وحسبي التذكير بوقفة جورج غالاوي في الكونغرس الامريكي، ناهيكم عن المقاومة الباسلة في العراق. والمؤشرات بمصر تدل علي أن نخبها الشابة كسرت حاجز الخوف، كما يتجلي ذلك في بيان حركة كفاية في 14 ايار (مايو) الجاري، المعنون: حركة كفاية ترفض ادعاءات رئيس الجمهورية وتلجأ الي القضاء لدحض مزاعمه. والبيان بما تضمنه يشكل تحديا للنظام رئيسا وحزبا واجهزة أمنية. فانبري السياسي المخضرم قائلا: إن ما تعتبره اختراقا لحاجز الخوف، وما يبدو من تهاون نسبي في قمع قوي المعارضة، وسيلة النظام في سعيه لتعزيز موقفه تجاه الضغوط الامريكية. والنظام يعرف تماما حدود قدرات قوي المعارضة. فالوفد والتجمع والناصري، أقوي احزاب المعارضة، ليست بذات الثقل الجماهيري الذي يخشاه النظام. ثم إن اتفاقها علي عمل جبهوي دائم تحول دونه تراكمات صراعاتها الماضية وتباين وجهات نظرها حول قضايا الحاضر والمستقبل. أما حركة كفاية ، وإن كانت واعدة، تفتقر للقيادة الكارزمية القادرة علي انتشال الجماهير من ركودها الذي طال. فضلا عن أن التزام رموزها القائدة بموقف قومي رافض هيمنة الامريكية والتغلغل الصهيوني يجعلها الهدف الاول للقوي المضادة. تساءلت: وماذا عن قرار الجمعية العمومية غير العادية لقضاة مصر، في 15 نيسان (ابريل) الماضي، برفض الاشراف علي الانتخابات الرئاسية والبرلمانية قبل منح القضاة حق الاشراف الكامل عليها؟ فرد السياسي المخضرم: ليس هذا بالموقف الجديد علي القضاء المصري، ولكنه لن يحول دون تسخير الموظفين الاداريين في الاشراف علي الاستفتاء والانتخابات، برغم النص الدستوري بان يتولي القضاء ذلك. ولقد اعتادت الانظمة المتوالية في مصر، منذ اقرار دستور سنة 1923، أن لا تتقيد باحكام الدستور. وحتي الرقابة الدولية التي يطلبها الرئيس بوش لن تحول دون ما يريد تمريره المرضي عنهم امريكيا. قلت: ولكن هناك من يري في حياد الجيش تجاه الجدل المحتدم والحراك السياسي النشط موقفا له دلالته، وللجيش المصري تاريخه الوطني، كما انه شديد الحساسية للواقع السياسي الاجتماعي القائم، فتدخل الاستاذ الجامعي قائلا: ظروف العام 2005 غيرها سنة 1952، وبخاصة الظروف الاقليمية والدولية غير الملائمة مطلقا لتحرك قوة منظمة وفاعلة ملتزمة بالثوابت الوطنية المصرية والقومية العربية كما هي حال القطاع الاعظم من منتسبي الجيش المصري. وتابع وهو يدقق في كلماته: الادارة والاجهزة الامريكية اليوم يغلب لديها اعتماد توظيف الديمقراطية علي اللجوء للانقلابات العسكرية. فضلا عن أن لها تجربة مرة مع ضباط مصر عندما حاولت احتواء عبدالناصر وصحبه خلال سنوات 1952 1954، فاستغلوا تناقضها الثانوي مع بريطانيا في انجاز اتفاقيتي السودان سنة 1953 والجلاء 1954، وامتنعوا عن الخضوع لاملاءاتها فيما يتعلق بالصراع العربي الصهيوني، فكان ان سحبت عرض تمويل السد العالي ودخلت معهم في صراع طويل معروف. ولا أحسب ادارة بوش وأجهزتها تجهل عواطف غالبية الضباط المعادية للتطبيع مع العدو الصهيوني انسجاما مع الموقف الشعبي المتميز بدرجة عالية من رفض الصلح مع اسرائيل وتبعاته. فسألت الحضور: وماذا عن الاخوان المسلمين ألا ترونهم القوة المؤهلة للتغيير بفعل شعبيتهم الملحوظة، وفعاليتهم النقابية، أم هم كما تقول الشائعات مرشحون لعقد صفقة مع النظام أو الامريكان؟ أجاب السياسي المخضرم: لا استبعد ذلك فهم عقائديون ولكنهم براغماتيون. فإن اعترف النظام بهم قد يقرون التجديد، بل والتوريث، سيما والحكم في واقع مأزوم اقتصاديا واجتماعيا ليس مغريا لمن سنده الاول قواعده الشعبية. أما التعامل مع الامريكان، وإن كان ليس بالجديد بالنسبة للاخوان، غير أن ما قد يحول دونه الاصرار الامريكي علي التطبيع مع اسرائيل وتسويقها عربيا واسلاميا. وختم مؤكدا: التغيير الجذري المنشود بمصر شرطه الاول التقاء قوي المعارضة جميعها علي ميثاق وطني ملتزم بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية واسترداد دور مصر المغتصب، وليس ذلك بالمستحيل إن استطاعت كفاية وأحزاب الوفد والتجمع والناصري عقد تحالف مع الاخوان مشروط بعدم التفرد باتخاذ القرار.