لا يمكن بأي معيار ديمقراطي أو أخلاقي أن نبرر العنف المنفلت الذي يندفع إليه بعض القوى المعروفة والمجهولة، سواء كان بعفوية وبراءة وقلة خبرة أو كان بتخطيط وترتيب وتآمر، لأنه يعني هدم البلد على رؤوس الجميع لحرمان فصيل بعينه من جني حصاد النصر في مرحلة ما بعد الثورة، لكنه بالمقابل لا يمكن أن نعفي الطرف الآخر من المسؤولية الضمنية عن هذا العنف وهذا الاحتقان وهذا الانفلات بسوء إدارته للملف السياسي، وأعني بذلك حزب الحرية والعدالة وأيضًا الدكتور محمد مرسي، لأنه منذ اللحظة التي قرر فيها هذا الطرف الاستخفاف بالحوار الوطني وإلقاء نتائجه في أقرب سلة "زبالة" كان يعرف ويدرك أنه بذلك لم يترك للطرف الآخر سوى النزول إلى الشارع ومحاولة فرض إرادته السياسية بالحق أو الباطل، لقد دعا الدكتور محمد مرسي القوى الوطنية إلى الحوار الوطني الجاد والمسؤول وألح على هذا الطلب واحتضنت مؤسسة الرئاسة فعاليات هذا الحوار، وأكد رئيس الجمهورية أنه ضامن لنتائج هذا الحوار ومتضامن معه وأن الحوار هو المدخل لحل أي إشكالات بين القوى الوطنية وأن الحوار هو مفتاح دخول مصر إلى الاستقرار والعمل المؤسسي، ولكن الذي حدث أنه بعد أول خطوتين من الحوار وبعد أول اتفاق على نقاط محددة خرج قيادات حزب الحرية والعدالة لكي يقولوا للجميع "بلوه واشربوا ميته" وقال رئيس مجلس الشورى إن هذا الحوار لا يلزم المجلس لأنه مجلس مستقل وسلطة مستقلة ولا دخل للسلطة التنفيذية أو رئيس الجمهورية بأعمال مجلس الشورى، كان الكلام مستفزًا ومتعجرفًا واستهباليًا أيضًا، خاصة وهو مجلس شبه منعدم ديمقراطيًا وهجر المصريون انتخاباته فلم يحضر سوى 7% من الناخبين فيما يشبه استفتاءً على إلغائه، لكن الأخطر أن هذا التلاعب بالحوار وقيمته كان يعطي إشارة الانطلاق للعنف في الشوارع والانفلات السياسي وانسداد أي أفق لخروج مصر من الاضطراب والفوضى، وألف مرة قلنا أن مثل هذه العجرفة والغشومية السياسية نتائجها فادحة، ولا تعطي رسالة قوة بقدر ما تعطي رسالة ضعف الإحساس بالمسؤولية تجاه الوطن، وأن البعض ما زال غير مدرك للفوارق الكبيرة بين إدارة تنظيم ديني متجانس فكريًا ومنهجيًا وسياسيًا ومصلحيًا ويقوم على السمع والطاعة، وبين إدارة دولة بمؤسساتها المختلفة وسلطاتها المستقلة وتياراتها المتناقضة وقواها السياسية التي تحمل مناهج وأفكار ورؤى شديدة التباين. لا يمكن أن أدعي أو يدعي آخرون أن مصر أمس لم تضع يدها على قلبها، وأن الجميع كان يستشعر الخطر، والجميع استفز عندما أعلنت رئاسة الجمهورية عن سفر الرئيس في اليوم التالي لإثيوبيا لحضور مؤتمر أفريقي، وكأن هذه الحرائق وهذا العنف وهذا الغضب الذي يشاهده العالم كله ويقف أمامه قلقًا، كأنه يحدث في بلاد الواق واق، وليس في مصر التي هو حاكمها وهو المسؤول الأول عن استقرارها وعن أمن مواطنيها وأمانهم، وأتمنى أن يعيد الرئيس مرسي تصحيح الأوضاع بسرعة، وأن يكون هناك وضوح كافٍ في مسألة الحوار الوطني وجديته والالتزام بنتائجه، صحيح أنه هناك خطان أحمران لا يمكن المساس بهمها، وهما شرعية رئيس الجمهورية وشرعية الدستور الجديد، لأنهما تعبير عن إرادة شعبية واختيار ديمقراطي، وأي تحرش بهما هو تحرش بالشعب المصري نفسه وإرادته، ولكن دون هذين الخطين هناك خطوط كثيرة تحتاج إلى حوار حقيقي وضمانات وممارسات تعطي انطباعًا بالجدية والثقة، تريد القوى الوطنية حوارًا لا يكون مجرد صور للتصدير خارجيًا بأننا نتحاور مع المعارضة، وإنما حوار جاد وحقيقي وملزم، وبصراحة كافية، بدون هذا الحوار سيستمر العنف وتستمر الفوضى ويستمر الانهيار الاقتصادي ويستمر وقف الحال ويستمر الاضطراب سيدًا للموقف في كل مؤسسات الدولة، وهذا يعني في المحصلة الفشل الكامل للرئيس محمد مرسي والإفلاس الكامل لإدارة الإخوان للسياسات العامة في مصر، وفي لعبة الشارع لا غالب ولا مغلوب عادة، ولكن هناك انهيار الدولة ومؤسساتها وأمنها واقتصادها، الآخرون يراهنون على ذلك، ولا تستطيع سياسيًا أن تمنعهم، طالما أنك أعطيت الجميع ظهرك وأغلقت مسارات الحوار الجاد وقلت: دعهم يقولون ما يشاؤون وأنا أفعل ما أشاء. [email protected]