أطلقت وسائل الإعلام والقوى السياسية المعارضة مصطلح "الخميس الأسود" على الأيام التي شهدت اندلاع مظاهرات تأييد القضاة الإصلاحيين في وسط القاهرة، والتي قوبلت من أجهزة الأمن بشتى صنوف القمع والاهانة من ضرب وسحل واعتقال وتعذيب نفس وجسدي، مورس بحق مئات المعارضين السياسيين ونشطاء المجتمع المدني، وصادفت هذه الأحداث أيام الخميس من كل أسبوع، حبست فيها القاهرة أنفاسها، واستنفرت خلالها الأجهزة الأمنية بكامل قوتها وحشدت آلاف مؤلفة من الأمن المركزي وفرق الكاراتيه، وتحولت المنطقة المحيطة بدار القضاء العالي إلى ثكنة عسكرية مدججة بالسلاح والهراوات الغليظة التي انهالت على أجساد المتظاهرين دون تفريق بين شاب وفتاة أو رجل طاعن في السن.. وسجلت عدسات الفضائيات ووكالات الأنباء العالمية هذه الانتهاكات المؤسفة، التي تم نقلها إلى جميع صحف وتلفزيونات العالم رغم محاولات أجهزة الأمن اليائسة لمنعها من تغطية الأحداث. لم تكن هذه الانتهاكات الفاضحة والفظائع الوحشية سوى قمة جبل الجليد، الذي يظهر على السطح ويصدم أعين الغرباء، بينما كامل جبل الاستبداد يجثم على صدور الناس سنوات طوال لا نعرف لها عددا، فجعل من كل الأيام والأسابيع والشهور والسنين عهودا سوداء وأياما غبراء (وليس أيام الخميس فقط)، فتعددت الأزمات والمحن التي خنقت الناس وملأت قلوبهم باليأس والإحباط، وتسبب فيها هذا التحالف الشيطاني الخبيث بين طغمة الاستبداد ورؤوس الفساد، يحركهم جشع لا يخبو للمال وشبق لا ينطفئ للسلطة.. فابتليت البلاد بالنهب المنظم واجتثاث الثروات وتهريب الأموال، وضج الناس بغلاء طاحن وفقر مهلك أذل أعناقهم وأضاع كرامتهم، وتخلفت مصر وعطلت تنميتها حتى سبقتها دولا كانت اشد منا فقرا واقل مواردا وأكثر سكانا، وجرفت الأراضي وسمم الغذاء بالمبيدات المسرطنة لزيادة أرباح الكبراء، الذين تسببوا في إصابة الناس بأمراض مهلكة وأوبئة متفشية،وبيعت المصانع والشركات في صفقات مشبوهة بأبخس الأثمان، وتضخمت الديون إلى حدود الخطر والإفلاس، وتولى اللصوص والسفهاء كبرى المناصب، فيما نبذ الشرفاء والحكماء، وقرب الأعداء الحاقدون وبعد الأشقاء المخلصون، وحصلنا على صفر المونديال كنتيجة طبيعية واستحقاق عادل لأصفار محلية ودولية وإقليمية حصدتها مصر بجدارة في هذا العهد الأسود البائس. هذه الأجواء الكئيبة والأحداث المريرة أفرغت صبر المصريين الذين تحملوا من النكبات والكوارث ما هو فوق طاقة وقدرة البشر، وما لم يتحمله شعب من الشعوب، وأمة من الأمم، حتى باتوا يعيشون على أمل انتظار الخلاص في يوم (أبيض) قريب، تداوى فيه جروحهم وتسكن أوجاعهم وتجبر خواطرهم. ولا يعرف أحد ولا يتكهن مخلوق ماذا يمكن أن يحدث من هبّات مدمرة وانتفاضات شعبية مفاجئة إذا تأخر هذا اليوم (الأبيض) الموعود. يترقب المصريون خميسا أبيض لا يهان فيه الناس ويقمعون لمجرد معارضتهم للحكومة، وينتظرون أياما بيضاء تفيض بالبشر والأمل يطمئنون فيها على مستقبل أولادهم والأجيال القادمة، يرون فيها حكما عادلا يتواصل مع الناس ويحمل همومهم، يبشر بالحرية الحقيقية والمساواة الكاملة بين جميع المواطنين. ينتظر المصريون حكما خادما لهم يستمد شعبيته وشرعيته من رجل الشارع وبسطاء الناس (وليس سيدا مترفعا عليهم تعاونه طغمة مستفيدة وفاسدة) .. ويتمنون حكما يتولى السلطة لفترة محددة لا يتعداها ثم يترك المجال لغيره (وليس إلى ابد الآبدين). يريد المصريون حكما يمكن نقده ومحاسبته تعرف مصدر ثرواته وحدود دخله (وليس حكما ذا سلطات مطلقة تحوط به الشبهات). يترقب المصريون أياما بيضاء يشاهدون فيها انتخابات حرة وديمقراطية سليمة وتداولا سلميا للسلطة ومجلسا نيابيا حقيقيا وسلطة قضائية مستقلة وأجهزة أمن تدين بالولاء للوطن والشعب وليس لثلة حاكمة تريد البقاء بأي ثمن بعد أن ارتكبت كل الموبقات والخطايا التي انتهت شرعيتها وصلاحيتها. يترقب المصريون أياما بيضاء يشهدون فيها عمرانا وتقدما ونهضة بعد اجتثاث بؤر الفساد ومحاكمة المفسدين الذين أجهضوا أحلام الناس، فيرون مصر وقد استعادت مكانتها بين الأمم كدولة حرة متقدمة ورائدة، تصدر العلم والمعرفة والثقافات والصناعات، (وليست دولة تابعة تتلقى المعونات). لن يأتي هذا اليوم (الأبيض) الذي يتمناه جميع الناس، مادامت قطاعات واسعة من المصريين بعيدة عن الشأن السياسي العام ولا تتفاعل مع الأحداث الجارية بايجابية.. والحل هو يقظة الناس (أصحاب البلد الحقيقيين) والوعي بما فعله اللصوص في حق بلادهم، والمشاركة الفاعلة في انتفاضة القوى الوطنية الحية، التي بدأها القضاة ويشارك فيها الآن أساتذة الجامعات والمهندسون والصحفيون والمحامون، حتى تتحقق آمال الشعب، وحسن أولئك رفيقا. [email protected]