لم تكن معارك الشوارع التي خاضتها جحافل أجهزة الأمن المصرية الأسابيع الماضية، وما قامت به من عمليات سحل وتكسير عظام مجرد جولة في صراع الإرادت بين نظام الفساد والاستبداد ، وبين كل المدافعين عن دولة العدل والحرية، والذين استطاعوا أن يحرزوا العديد من النقاط في معركة طويلة الأجل هزموا فيها محاولات قوى الاستبداد العودة بالمجتمع المصري إلى المربع واحد ،قبل أن تسعى حركة "كفاية" لبدء الضربة الأولى في معركة هدم ثقافة الخوف والانكسار التي سعى نظام مبارك لفرضها على الشعب المصري طوال أكثر من ربع قرن. لقد كان المكسب الحقيقي في هذه المعركة هو استيعاب كل القوي مغزى نجاح القضاة في الجولة الأولى في معركتهم من أجل استقلال القضاء، وهو أن الصلابة وعدم التراجع أو التنازل والاحتماء بقوى الشعب في الشارع سلاح سحري قادر على إنزال مزيد من الهزائم بقوى الاستبداد والفساد. ليس هذا فقط بل بلورت هذه الجولة من معركة الأمة من أجل العدل والحرية قيادات ورموزا قادرة على أن تلعب دورا طليعيا في معركة التحول الديمقراطي السلمي في المدى القريب، للدرجة التي أصبح بالإمكان للمواطن العادي أن يجيب عن تلك الأسئلة التي كان وما يزال يطرحها كهنة النظام الحاكم الداعين للتمديد والتوريث، أسئلة من عينة من يستطيع أن يتولى منصب الرئيس غير مبارك؟ أو هل هناك من هو أكثر تأهيلا ليخلف الرئيس مبارك غير ابنه؟ فمن غبار جولة القضاة تبزغ أسماء وقيادات قادرة على أن تقود البلاد في مرحلة التحول بعد أن أصبح دفاعها عن نزاهة واستقلال القضاء تاجا ينير جباهها، ويخلق حولها قدرا من الإجماع الوطني. أيضا تؤكد تلك الجولة الأخيرة من معركة الحرية صحة التوجه السياسي العام لحركة كفاية والساعي إلى : 1 بناء تكتل أو قطب مدني ، كبديل ثالث بين نظام الفساد والاستبداد الذي يحكم البلاد، وبين دعاة الدولة الدينية التي تضرب في الصميم مفهوم المواطنة الذي تأسس عليه دولة العدل والحرية. لقد أفرز التعاطف والتأييد والتضامن اللا محدود من مختلف قوى المجتمع المدني لنادي القضاة استجابة لنداء حركة كفاية التي افتتحت التضامن مع القضاة بمظاهراتها منذ اجتماع الجمعية العمومية لنادي القضاة في مايو العام الماضي ، وحتى اعتصام شبابها المواكب لاعتصام القضاة في ناديهم اللبنة الأولى في بناء هذا القطب المدني الذي سوف تنقله معارك الأيام القادمة. 2 إظهار مدى تآكل شرعية النظام الحاكم ، بما ينفي عنه شرط الاستمرار في الحكم، وهو ما تظهره يوما بعد يوم ردود أفعال النظام السياسي على كل الأنشطة والفاعليات السياسية والاحتجاجية السلمية التي تنظمها الحركة وهي في مجملها أنشطة لها طابع رمزي من حيث الكثافة والضخامة وإن كانت عميقة التأثير ، إلا أنها أصبحت تواجه بعصا الدولة الغليظة من سحل وتكسير عظام واعتقال وهتك لأعراض السيدات والفتيات، وهي وإن كانت تكشف عن مدى تدهور كفاءة النظام السياسي وعزلته ، ولجوئه إلى أساليب مخالفة للقانون والدستور لحصار قوى المعارضة المتزايدة إلا أنها وهذا هو الأهم تفضح كل دعاويه حول الإصلاح أمام الشعب والعالم. 3 التأسيس لفكرة بناء التحالفات والعمل الجماعي ، فلقد سعت سلسلة الأنشطة والفاعليات التي شاركت فيها حركة "كفاية" للتأكيد على هذا النهج الذي يكاد يتوحد مع بنية الحركة ذاتها والتي تضم في عضويتها نشطاء ينتمون إلى كل القوى والتيارات الفكرية والسياسية في المجتمع المصري، ويشهد سجل كل المعارك أو الفاعليات التي بادرت بها الحركة أو دعيت لها على التزامها وسعيها لبناء أوسع تحالف وأشكال تنسيق ممكنة على الأرض وعبر النضال المشترك وليس من خلال اتفاقات الغرف المغلقة ولعل دماء نشطاء الحركة ونشطاء الإخوان وباقي القوى السياسية التي سالت في شوارع وسط المدينة ، وزنازين النظام التي استقبلت مئات المعتقلين منهم خير شاهد على تعميد هذه التحالفات بدم الحرية. 4 تثبيت قيم النضال الديمقراطي السلمي ، كجزء من ثقافة سياسية جديدة لازمة لنجاح عملية التحول الديمقراطي ، وهو ما مكن الحركة من أن تنزع حق التظاهر والتجمع السلمي بدون الحاجة إلى استئذان أجهزة الأمن لها ولكل المصريين، بل كان تبني الحركة لأساليب أخرى مثل اللجوء للقضاء ، وإصدار التقارير، واللجوء للرأي العام عبر وسائل الإعلام المستقلة يسير في نفس الاتجاه الذي يمكن للحركة أن تعلن أنها لن تتنازل عن أي مكسب حققته في هذا المجال ولعل إصرارها على هذا ظهر بشكل واضح في الاحتشاد والتظاهر رغم الآلاف من جنود الأمن المركزي وإعلانات الداخلية التي تحذر كل من يقترب من وسط العاصمة ، ورغم مئات المعتقلين وعمليات السحل وتكسير العظام. تثمل الاستراتيجيات الأربع السابقة التوجه العام لحركة كفاية التي تستمد حيويتها الحقيقية من قدرتها على أن تطرح مبادراتها مباشرة على أبناء وطننا دون التقيد بأسقف أو حسابات سياسية ضيقة طالما راهن نظام الاستبداد والفساد على وقوع المناهضين له في حبائلها.