تحت عنوان عريض هو الفساد؛ سلكنا في جزأين سابقين سبل استقصاء بعض مواطن الداء في بنيان الجهاز القضائي، والتي كانت بدورها مظاهر وصورًا من ذلك الفساد الكبير الذي رزح تحته مرفق العدالة طوال العهد المقبور، وكان الذي اكتوى بويلاته هو الشعب المصري الذي ضاعت حقوقه بالمعنى القانوني والسياسي والاجتماعي كنتيجة حتمية لتفشي ذلك الداء العضال، حتى تحول المشهد الكئيب للحياة المصرية من فساد نظام إلى نظام فساد. واستلهامًا لخيوط الفجر البازغ الذي تبعث به في الواقع المصري روح ثورته المتوثبة؛ فإننا نختم مقالنا بهذا الجزء الثالث الذي نستروح فيه روحًا من الأمل الثوري بحثًا عن سبل الشفاء من أدواء فساد ذلك العهد المقبور. وإن مسالك سبيل هذا الشفاء المأمول لبنيان الجهاز القضائي في مصر لهي جلية بينة لمن أراد لهذا الوطن خيرًا، وهي – في الوقت نفسه– معركة ليست بالهينة ولا اليسيرة ضد جذور دولة الفساد العميقة الناشبة أظفارها والنافثة سمومها في البنيان المصري، والعنوان العريض لهذا الشفاء هو التطهير الثوري لشجرة الفساد العفنة. وتحت هذا العنوان نتلمس خطوات هذا التطهير، هذه الخطوات التي يتحتم أن يكون المسير فيها جميعًا لا تباعًا، فيكون البدء بتفعيل المادة الدستورية الجديدة التي نبتت كالزهرة في الدستور المصري الجديد، وهي التي تجعل من شغل الوظائف العامة بأي شكل من أشكال الواسطة والمحسوبية والانتقائية جريمة يعاقب عليها القانون ولا تسقط الدعوى الجنائية عنها بالتقادم، حتى تطول يد القانون كل من يشارك أو يساهم في مثل ذلك العفن القديم، والذي كان هو الباب الأسود دخولًا إلى مجال القضاء. فبهذا – وبهذا وحده – تخطو مصر إلى أولى عتبات دولة القانون ومبدأ المساواة وتكافؤ الفرص، فلا يعود هذا المبدأ الأسمى في دولة القانون حبرًا على ورق كان يسمى دستورًا، وبهذا يفيد الوطن من طاقات الأمل والطموح لدى أجياله الصاعدة، فلا يعود المنصب القضائي مغلقًا على أبناء ومحاسيب القضاة. وبهذا تعلو قيمة الجد والعمل والجدارة، وهي قاطرات أي نهضة في أي أمة أرادت النهوض. ثم ينفسح أفق النظر إلى مساحات الآمال الثورية فنرى خطوة أخرى من خطوات التطهير الثوري، وهي التطهير بمعناه الحرفي، فيشمر الشرفاء من أبناء الجهاز القضائي المصري إلى اجتثاث ونبذ كل عضو فاسد في الهيئة القضائية، وهو دور يسهم الشعب بنصيب منه، بفضح كل عضو فاسد في الهيئة القضائية بما يعلم من فساده فيقدم ما لديه من معلومات موثقة ومؤكدة عن ذلك الفساد إلى جهات التطهير في مرفق القضاء. ولا يقل جدارة وسبقًا عن ذلك ضرورة موالاة ومداومة التأهيل العلمي والخلقي والديني والمعرفي لأعضاء الهيئة القضائية، بما يقتبس من روح الثورة ومعانيها وقيمها البازغة، وبما يتماشى مع روح العصر وقيمه الحضارية والثقافية والمعرفية. ثم يلزم عن هذه الخطوات على طريق التطهير حتمية إصلاح الهيكل الإداري لمرفق القضاء بما يرسخ فاعلية التفتيش القضائي بشكل جاد وحقيقي وموضوعي وليس شكليًّا ولا روتينيًّا. هذا الإصلاح الذي يقود بدوره إلى الخطوة الأكبر والأرسخ على هذا الطريق، وهي عدم التستر على فساد الفاسدين أو جهل الجهلاء من أعضاء الجهاز القضائي. وإن لهذا الشأن حديثًا ذا شجون يستدعي إلى الذاكرة غير قليل من مخازي الفساد في عصر مبارك. هذه بعض من خطى التطهير الذي يتحتم على الثورة المصرية أن تأخذ بأسبابه، ويتحتم على الشرفاء من أبناء الجهاز القضائي أن يشمروا عن سواعد العزم المستلهم لروح الثورة حتى يتحقق لهم ولمصر بهم هذا التطهير هي خطى وإن كانت معدودة إلا أننا نراها فسيحة وكبيرة على طريق النهضة المصرية المرجوة من ثورة انتفض بها شعب مصر كالمارد يقوم من سبات كان يظنه من يخطئ قراءة التاريخ موتًا لا بعث له، فإذا بهذا الشعب العريق يبهر نفسه قبل أن يبهر الدنيا بوثبة ثورته. وبهذه الخطوات يأخذ الجهاز القضائي بيد مصر إلى المعاني الحقيقية والعميقة لقيم فقدت معناها من كثرة ما لاكتها الألسن والطنطنات الفارغة الجوفاء، في حين كانت الهوة شاسعة بين معاني هذه القيم وبين وجودها في الواقع المصري: دولة القانون.. العدالة.. الحق.. ولا نتساءل إن كانت الثورة المصرية والشرفاء من أبناء الجهاز القضائي المصري قادرين على أن يعبروا بمصر هذه الفجوة والهوة ما بين مثالية هذه القيم والمعاني وبين الواقع الجديد، لأننا نثق في روح مصر الثائرة، وفي أن بمصر قضاة جديرين بمنصة القضاء، وأنهم قادرون على هذا التطهير الثوري للجسد القضائي من رأسه إلى أحدث معاون نيابة فيه، حتى يصلح بصلاحهم جسد الوطن.