فى استقصائنا لأعماق الأزمة البادية على سطح الواقع المصرى، والتي تتمحور حول الجهاز القضائي؛ ألقينا نظرة عابرة – في الجزء السابق من المقال – على باب الفساد المستتب الذي دخل منه القضاة إلى مرفق القضاء، فرأينا كيف صنع هذا الفساد من هؤلاء القضاة طبقة فوق البشر والقانون والدولة. فإذا كان الجزء السابق من هذا المقال هو نظرة إلى القاضي في ذاته المتضخمة المستعلية، فإننا نحاول في هذا المقال النظر إلى هذا القاضي في أدائه الهزيل مهنيًّا، حيث لا يحمي حقًا ولا يذود عن عدالة ولا يكترث لفكرة دولة القانون، وذلك هو ثاني ملامح الفساد الذي أحاط (بل كفّن) الحقوق والقانون في العهد الفاسد فيما قبل الثورة المصرية. وكما آثرنا في الجزء السابق من المقال أن نطرح وندقق النظر في داء كان ظاهرًا لكل ذي عينين تبصران الواقع المصري قبل الثورة، فإننا نؤثر النهج نفسه في هذا الجزء الثاني من مقالنا، فنمعن النظر في الأداء المهني لمرفق القضاء برؤية واقعية موضوعية لا يجادل فيها مجادل ولا يغالط مغالط. وبمجرد أن نفتح الأعين والعقول على واقع هذا الأداء المهني تروعنا مشاهد قاتمة مطبقة من الفساد والعفن ضربت بأطنابها على الواقع القضائي المصري، ولا نجاوز الحقيقة إذا قلنا إن هذه المشاهد المزرية كانت بعض أسباب وعوامل الثورة المصرية. فتعالوا بنا نسأل قضاة مصر (المنتفضين لهيبة القضاء) عمن قتل ألفًا وثلاثمائة مصري فرمى بهم في عرض البحر؛ أين هو؟ ومن ذا الذي حماه من قضائكم العادل؟ ونسألهم عمن فتك بأبدان المصريين وبأرض مصر فبث فيها أمراض الكلى والكبد والسرطان: أين هو؟ ولماذا لم يقتص منه قضاؤكم الشامخ؟ ونسألهم عمن أحرق المصريين في قطار الصعيد وقصر ثقافة بني سويف: أين هو؟ وفيم تغافلكم عنه؟ ونسألهم عنهم أنفسهم: فيم كان صمتكم وتعاميكم عن تزوير الانتخابات وانتهاك إرادة المصريين في صناديق كانت تسمى زورًا وإفكًا صناديق انتخابات، والحقيقة أن صناديق القمامة كانت أنظف منها وأطهر؟ وكيف كان صمتكم مخزيًا إزاء قوانين بل ومواد دستورية تحاك وترقع كما يرقع الثوب الخرق فلا يستر عورة النظام الفاسد بل يزيده عريًا وافتضاحًا ويمسكم من فضيحته نصيب؟ ونسألهم عن سجون اكتظت بكل بريء من خيرة شباب الوطن من كل تيارات الرأي والفكر السياسي: وكان في طليعتهم الإسلاميون ومعهم غيرهم من كل ألوان الطيف السياسي المصري، وما ألقى بهم في غيابات السجون الصلبة الباردة إلا أحكام جائرة سطرتها أيدي قضاتنا (المستنفرين غضبًا للعدل وللقانون!) وكانت تملى عليهم (بالتليفون) من لاظوغلي ومدينة نصر. ونسألهم عن دوائر قضائية كانت تدفع الملايين في قضايا لتذهب إلى هذه الدوائر المشبوهة بذاتها. هذه الأسئلة الموجعة ليست إلا قليلاً من كثير هو أفدح ظلمًا وظلامًا كان يخيم على المشهد العام لمرفق القضاء المصري قبل الثورة، حتى ولو كانت هناك بعض نقاط الضوء في ذلك الظلام، فإنها لم تكن إلا حالات فردية من الممكن أن تجمعها مقولة إنه كان في مصر قضاة مستقلون ولم يكن فيها قضاء مستقل. هذه الأسئلة الباعثة على الأسى لا ننتظر عنها جوابًا ممن سألناهم إياها، فالجواب عند الشعب المصري الذي نخر في بنيانه الاجتماعي كل هذا الفساد وأكثر منه، كان يمنهجه نظام فاسد ويحميه قضاء فاسد ما زال مستميتًا في الدفاع عن فساده رغم زوال نظام الفساد وليله الغميق عن وجه الوطن! فإلى هذا الشعب المنتفض الثائر يتوجه الحديث ومعه يقوم الحوار وإلى ضميره السؤال: هل تصدق أيها الشعب العظيم أن الزوبعة التي يثيرها هؤلاء هي دفاع عن قانون أو عدالة أو قدسية قضاء، أو عنك أنت يا من ابتليت بهم فثرت فكنست رأسهم مبارك إلى مزبلة التاريخ؟