تشهد الساحة العربية حراكاً شعبياً متصاعداً يطالب بالإصلاح السياسي كبوابة للإصلاح الشامل، هذا الحراك يقابل بردود فعل غاضبة من الأنظمة حتى من قبل تلك التي يفترض انها قد أقرت اقامة نظام حكم ديمقراطي ونصت في دساتيرها وتشريعاتها على التعددية الحزبية والسياسية، وعلى مبدأ التداول السلمي للسلطة، بل وسمحت بهامش من حرية التعبير عبر الصحف الحزبية والمستقلة. ان غضب الأنظمة من الدعوة الى الاصلاح السياسي والتي لا تطالب بأكثر من تفعيل ما نصت عليه التشريعات التي أقرتها واعلنتها والتزمت بها هذه الأنظمة لدليل على ان للديمقراطية لدى النخب الحاكمة مفهوماً مختلفاً عما هو لدى الحركات الشعبية، مما جعل الأنظمة تفقد شرعيتها وولاء مواطنيها. يقول “روبرت ماكيفرن”: “ان الشرعية تتحقق حينما تكون إدراكات النخبة لنفسها وإدراك الجماهير لها متطابقين وفي اتساق عام مع القيم والمصالح الاساسية للمجتمع وبما يحفظ للمجتمع تماسكه”. النخب الحاكمة تفهم الديمقراطية بأنها ديكور مهمته تحسين صورة النظام خارج الوطن، وان الحرية الممنوحة للمواطنين والمقبولة هي التي لا تحد من سلطات النخبة الحاكمة، ولا تؤثر في مصالحها وامتيازاتها، ولا تقترب من مواقعها، وهي مقبولة في حدود قل ماتشاء ونحن نفعل ما نشاء، وتعتبر النخب الحاكمة ان أي ديمقراطية تتجاوز ذلك هي تخريب وعمالة يستحق العقاب كل من حاولها أو نادى بها. في ظل هيمنة الثقافة السلطوية، ونقص الخبرة، خاضت القوى السياسية العربية تجربة المعارضة المستأنسة التي تتردد بحكم خلفيتها الثقافية ان تتطاول على مراكز الحاكمين وسلطاتهم وامتيازاتهم، ومارست صحافة المعارضة حريتها التي لا تتجاوز الخطوط الحمراء التي يقف خلفها رموز النظام. رغم ان ممارسة العمل الديمقراطي قد سار ردحاً من الزمن في اطار الهامش المتاح إلا انه كان سلاحاً ذا حدين، فبالقدر الذي خدم فيه الأنظمة بتحسين صورتها امام العالم، بالقدر الذي أوجد تحولاً في ثقافة المجتمع ومفهومه للديمقراطية، فبرزت في الساحة العربية قوى جديدة ترفض مفهوم النخبة الحاكمة للديمقراطية، كما ترفض سلوك المعارضة المستأنسة فرفعت سقف حرية التعبير وتجاوزت الخطوط الحمراء، كما حدث في اليمن. وطورت هذه القوى الجديدة من أساليب تعبيرها فخرجت الى الشارع كما حدث في لبنان ومصر، وبدأت تتجاوز أطر الأحزاب التقليدية بإقامة مؤسسات مدنية جديدة مثل: منظمة “كفاية” و”التجمع الوطني” في مصر العربية ومنتدى التنمية السياسية، ومنظمة “ارحلوا” في اليمن إلى جانب تصاعد دور الجمعيات والنقابات والاتحادات ومنظمات حقوق الانسان والتي جميعها تتصدر الدفاع عن الحريات والحقوق وتفعل الدعوة الى الاصلاح السياسي في عدد من الأقطار العربية. من الافتراق بين المفهوم الشعبي للديمقراطية الناتج عن نمو الوعي ومفهوم النخب الحاكمة التي عجزت عن التطور وعن الاستجابة الحضارية للتحديات، دخلت الساحة العربية مرحلة التجاذب والتوتر، فقد فقدت الشرعية على رأي “روبرت ماكيفرن” حينما أصبحت ادراكات النخبة لنفسها وإدراك الجماهير لها غير متطابقين وقد صاعد من الازمة الفساد والظلم واتساع قاعدة الفقر والفقراء وتعثر مشاريع التنمية، وارتفاع اعداد العاطلين عن العمل. بدلا من ان تتجه النخب الحاكمة الى مسايرة تطور وعي المجتمع والاستجابة الحضارية للتحديات اتجهت الى اسلوب العنف واستخدام القوة وجندت سلطات الدولة وامكاناتها لقهر الأصوات الجديدة واسكاتها وتعطيل صحفها واحزابها ومؤسساتها واعتقال العديد من أفرادها، وجميعها أساليب أثبتت شواهد التاريخ فشلها من عهد فرعون حتى عهد شاوشسكو. مناخ الصراع بين القوى المتطلعة للإصلاح والقوى المتشبثة بالهيمنة والاستبداد هو المناخ المناسب لتدخل القوى الخارجية، فالنخب الحاكمة يمكن ان تلوذ بالقوى الخارجية كي تحتمي من شعبها، وفي مراحل الشعور باليأس والاحباط قد تضطر القوى المضطهدة الى الاسترخاء في مواجهة الضغوط الخارجية وأقل ما تعمله هو ان تخفف من موقفها القومي والديني المضاد للهيمنة الخارجية. وفي كل الأحوال ليس ذلك في مصلحة الأمة. لكن المشكلة ان الاستبداد يوصل الأمة الى النتيجة نفسها التي تدمر الأمة وتمزقها وتضعف اقتصادها وأمنها وتماسك جبهتها الداخلية ويشيع الفساد بين أهلها فتنحل القيم وتنهار الاخلاق ويصبح الوطن لقمة سائغة لكل عدو وطامع. قد تقبل القوى الوطنية الهامش الديمقراطي المتاح لو ان الخلل ينحصر في المجال السياسي لكن المشكلة ان النظام السياسي قطار يجر كل عربات السوء وراءه، ففي ظل النظام السياسي المخلول تتعطل مؤسسات الدولة وأجهزتها الإدارية ويسود الفساد والافساد مما يجعل من المستحيل تحقيق التنمية في أي مجال فتتعطل الأيدي عن العمل وتتسع دائرة الفقر ويهتز الأمن والاستقرار. وفي ظل النظام السياسي المخلول يسود الظلم ويغيب العدل وتحل الامزجة والاهواء بديلا عن سيادة القانون وتنعدم الشفافية والمساءلة، ولا غرابة فالظل لا يستقيم والعود اعوج. والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: “لتأمرنّ بالمعروف ولتنهين عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيسومونكم سوء العذاب فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم”. وعليه فالإصلاح السياسي وحده هو الطريق لمنع القوى الخارجية من التدخل وهو السبيل لتماسك المجتمع وتطوره. --- صحيفة الخليج الاماراتية في 17 -7 -2005