لنا إن قارننا البيئة السياسية الداخلية في مصر بما يقابلها في دول الجوار العربي أن نكتشف العديد من أوجه التشابه بينها، خاصة لجهة قدرة الحكام الفائقة على تطوير وتجديد إستراتيجيات وأدوات إدارتهم السلطوية لشئون السياسة والمجتمع. فعلى الرغم من تبلور لحظات متتالية للحراك السياسي والارتفاع النسبي في وتيرة المطالبة الشعبية بالإصلاح الديمقراطي على امتداد العالم العربي، لم تفقد نظم الحكم الكثير من سيطرتها ومازالت في موقع المنفرد بتحديد وجهة ومضامين السياسات العامة. في هذا السياق، يلفت النظر تزايد اعتماد نظم الحكم العربية في الآونة الأخيرة، خاصة في الجمهوريات، على إدخال تعديلات مستمرة على دساتيرها يراد منها صناعة واجهات ديمقراطية وتعددية فارغة من المضمون تحتوي المطالب الشعبية من جهة، وتوظف من جهة أخرى في تحسين صورة نظم الحكم خارجيا. والحقيقة أن صناعة الواجهات التعددية تقتضي هندسة دقيقة لبيئة تشريعية وقانونية تمكن إما من إجراء انتخابات دورية تشارك بها بجانب الحكم قوى المعارضة دون أن يكون للأخيرة فرصة حقيقية في المنافسة الفعلية على السلطة، أو ترتب تجريد بعض المواقع المتنافس عليها انتخابيا من الفاعلية إن بقصر اختصاصاتها وصلاحياتها على الشكلي من أمور السياسة والمجتمع وتركيز السلطة في موقع آخر في النظام السياسي هو عملاً خارج حدود المنافسة. ولكي ندرك في مصر - وبفضائها العام يتصاعد اليوم مجددا النقاش حول الدستور - مدى التشابه بيننا وبين جيراننا، أستعرض فيما يلي الخلاصات الرئيسية لورقة تحليلية أنجزتها مؤخرا لمؤسسة كارنيجي وصحيفة الحياة حول التعديلات الدستورية الراهنة في العالم العربي هادفا بذلك إلى إثراء النقاش داخل مصر وحولها ومساعدة القوى الديمقراطية على إدراك الكيفية التي تستخدم بها الدساتير لضمان استمرار السلطوية: 1. بين عامي 2005 و2008 عدلت جمهوريات عربية ثلاث دساتيرها، هي وفقاً لأسبقية إدخال التعديلات والتصديق عليها برلمانيا أو برلمانيا وشعبيا مصر وتونس والجزائر. وانضمت الجمهورية اليمنية في 2007 إلى القائمة بتقدم حزب الرئيس علي عبد الله صالح (حزب المؤتمر الشعبي) بطلب للبرلمان لتعديل بعض المواد الدستورية ما زال إلى اليوم يدور حوله النقاش في أروقة الهيئة التشريعية. يجمع التعديلات الدستورية في مصر وتونس والجزائر وتلك المقترحة باليمن ملمح هام يتمثل في أنها جميعا تغير من شروط الترشح للمنصب الأعلى في الجمهوريات، الرئاسة، إن لتضعف قدرة مرشحي المعارضة على المنافسة أو لتمنح للرؤساء الحاليين الحق القانوني في الاستمرار في مناصبهم دون حدود زمنية قصوى. 2. في مصر، عدلت المادة 76 من الدستور في 2005 و2007 لتفتح الباب من جهة وللمرة الأولى منذ إعلان الجمهورية في 1952 لانتخابات رئاسية تعددية ولتنزع عن التعديل من جهة أخرى الشق الأكبر من مضمونه الفعلي بوضع شروط تعسفية على ترشيح المستقلين. وبينما عدلت المادة 76 مرتين متتاليتين، رفضت النخبة وعلى الرغم من مطالبة شعبية مستمرة إدخال تعديلات على المادة 76 التي لا تضع حدا زمنيا أقصى على الترشح للمنصب الرئاسي وتقلده. 3. وعلى ذات النهج، يقدم التعديل الدستوري (الفصل 39 و40 من الدستور) الذي صادق عليه البرلمان التونسي في ابريل 2008 بأكثرية التجمع الدستوري الديمقراطي الحاكم صورة مركبة لصناعة واجهة تعددية تحول مكوناتها وآلياتها دون تهديد سيطرة نخبة الحكم. فالتعديل وإن كرس تشريعيا تعدد الترشيحات للانتخابات الرئاسية من خلال السماح للأمناء العامين لأحزاب المعارضة بالمنافسة، إلا أنه قبل كل شيء أزال الحد الأقصى لتقلد المنصب الرئاسي ضامنا بذلك للرئيس زين العابدين بن علي الحق في ولاية خامسة (مدة الولاية الرئاسية 5 سنوات) بدأت بعد انتخابات تعددية شكلية في 2009. 4. ثم التحقت الجمهورية الجزائرية بالركب في خريف 2008 بإلغاء البرلمان تحديد عدد الولايات الرئاسية المتتالية بولايتين عبر تعديل المادة 74 من الدستور. أتاح تعديل الدستور الجزائري للرئيس عبد العزيز بوتفليقة الترشح لولاية ثالثة في الانتخابات التي أجريت في ربيع 2009 وفاز بها بفارق كبير عن منافسيه. 5. أما في اليمن، ومع أن التعديلات الدستورية المقترحة من قبل الحزب الحاكم تطال شكل وصلاحيات السلطات التشريعية والتنفيذية في النظام السياسي ومنظومة الإدارة المحلية المراد تحويلها إلى حكم محلي بإعمال مبدأ اللامركزية، إلا أنها تطرح أيضا تغيير مدة الولاية الرئاسية (المادة 112) من 7 سنوات إلى 5 بعد أن تم رفعها سابقا في تعديل الدستور 1999 من 5 سنوات إلى 7، والهدف في الحالتين - وكما تقرأه المعارضة اليمنية - هو التمكين القانوني للرئيس صالح للترشح لولايتين رئاسيتين جديدتين بعد انتهاء ولايته الحالية في 2013. 6. ويتواكب مع منح الرؤساء الحاليين الحق القانوني في البقاء في مناصبهم باستبعاد الحدود الزمنية القصوى للولاية الرئاسية (مصر وتونس والجزائر) أو التحايل عليها (اليمن) وإضعاف قدرات المعارضين على المنافسة الفعلية في الانتخابات الرئاسية ملمح ثاني للتعديلات الدستورية الراهنة في الجمهوريات العربية يتمثل في تركيز السلطة في النظام السياسي في الهيئات التنفيذية خاصة الرئاسة واستمرار الافتئات على صلاحيات الهيئات التشريعية والقضائية بل وتجاوزها على نحو منظم. تحوي التعديلات الدستورية المصرية 2007 والتونسية والجزائرية 2008 نصوصا تذهب باتجاه تعزيز سلطة التنفيذيين إن رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء في مصر أو بالقصر على رئيس الجمهورية في تونس الذي أعطته التعديلات حصانة قانونية وسياسية بعد التخلي عن السلطة وفي الحالة الجزائرية بعد أن ألغي منصب رئيس الحكومة واستحدث منصب الوزير الأول بصلاحيات أقل. أما في اليمن فالمطروح ضمن مقترحات تعديل الدستور هو تحويل شكل وبنية النظام السياسي إلى نظام رئاسي من خلال توسيع صلاحيات مؤسسة الرئاسة (مادة 5). 7. ثم يكتمل مشهد التحايل السلطوي من قبل نخب الحكم الجمهورية على الحراك السياسي والمطلبية الديمقراطية وهندسة البيئة التشريعية والقانونية لتكريس سيطرتهم عبر بوابة تعديل الدساتير حين النظر إلى ملمح ثالث تظهره بالأساس الخبرة المصرية. فقد جاءت تعديلات 2007 في مصر متضمنة لنصوص معطلة للحريات الشخصية والمدنية ولاغية لرقابة السلطة القضائية على الانتخابات، وهو ما تطالب اليوم القوى الديمقراطية بتغييره قبل إجراء الانتخابات البرلمانية في العام الجاري والرئاسية في العام القادم. والنتيجة في التحليل الأخير هي دساتير لا شرعية ديمقراطية لها تتلاعب بنصوصها نظم الحكم متى شاءت وكيف شاءت وتفتقد من ثم للقبول الشعبي.