تنبئ الخبرات الناجحة للتحول الديمقراطي في العديد من دول العالم عن ثلاث وظائف محورية تضطلع البرلمانات المنتخبة بأدائها أجملها في العبارات التالية: توفير مساحة شرعية مستدامة لنقاش قوي المجتمع حول جوهر وشكل الإصلاحات السياسية المرجوة، تأطير نقاشات الإصلاح بربطها بالآلية التشريعية من جهة وتوازنات القوة الواقعية كما تعكسها العلاقة بين الأغلبيات والأقليات من جهة أخري، صياغة ملامح توافق وطني عام حول قواعد اللعبة الديمقراطية، وأهمها مبدا تناوب السلطة من خلال انتخابات تعددية نزيهة وحياد مؤسسات الدولة علي نحو يلزم القوي المختلفة باحترام قدسيتها ويضمن عدم الارتداد عنها في مراحل لاحقة، لا يعني ذلك غياب أو محدودية أهمية إطارات الفعل السياسي التوافقي غير البرلمانية( دورات حوار وطني، لجان تنسيق الاستراتيجيات والمواقف بين مجموعات بعينها من الأحزاب والحركات الاجتماعية)، إلا أن احتكار البرلمان لحق التشريع يعطي له أولوية مطلقة في إدارة عملية التحول الديمقراطي. أما الشروط اللازم توافرها لتمكين المجالس المنتخبة من لعب هذا الدور المركزي، فهي تتمثل بالأساس في وجود ضمانات دستورية تحمي استقلالية نواب الشعب خاصة في مواجهة السلطة التنفيذية وأخري سياسية جوهرها اختفاء الهيمنة الكاملة لحزب واحد علي المجلس وفاعلية أداء الأحزاب الصغيرة. في هذا السياق يمكن النظر إلي مغزي الانتخابات التشريعية المقبلة في مصر، فهي تأتي في ظل لحظة ممتدة من الحراك السياسي غير المسبوق وعقب استحقاق رئاسي رفع بحكم ما أضفاه من نشاط علي النقاش العام وعلي الرغم من غياب المنافسة الحقيقية عنه من سقف توقعات المواطنين بشأن الإصلاح ولا ينبغي هنا التقليل من أهمية الدور القادم لمجلس الشعب الجديد إما بالدفع بضعفه في السنوات الماضية وتحوله لأداة في يد حكومة الحزب الوطني الديمقراطي لفرض ارادتها علي بقية القوي السياسية او التشديد علي هامشية الآثار المحتملة لزيادة عدد مقاعد المعارضة نظرا لتشرذمها وانتفاء قدرتها الفعلية علي منافسة الحزب الحاكم، بداية التنبؤ باستمرار ضعف مجلس الشعب إنما يتجاهل أن المجلس وفقا للدستور الحالي، وبغض النظر عن نواقص عدة من الصلاحيات ما يؤهله لتغيير وضعية علاقته بالسلطة التنفيذية إن توافرت الإرادة الجمعية للشروع في ذلك، علي صعيد ثان يرتب تصاعد وتيرة التفاعلات السياسية واتساع مساحات النقاش العام حول الاصلاح تراجعا نسبيا لقدرة الحزب الوطني علي التعاطي بمنطق الفرض مع قوي المعارضة بل يدفعه تدريجيا للبحث عن نقاط التماس والتوافق مع الآخرين لتخفيف حدة حالة المواجهة الراهنة. أما اليأس من تمكن أحزاب وحركات المعارضة من تطوير أدائها وإن كان له ما يبرره فمردود عليه بمقولتين، وفي حين تستقي اولاهما تفاؤلها الحذر بشأن مستقبل المعارضة المصرية من عبر تاريخ الديمقراطيات الدالة بأشكال مختلفة علي قدرة المعارضة إنجاز تراكم إيجابي تتحرك في سياقه من الهامش إلي موقع المشاركة الفعالة، تستند المقولة الثانية إلي فرضية في أدبيات العلوم السياسية يشار إليها بمفهوم حرق المراحل، علي نقيض فترات الجمود السياسي التي مرت بها مصر في السابق وادت الي اختزال دور قوي المعارضة في مجرد الوجود كهياكل ورقية لا حول لها ولا قوة، فإن دينامية لحظة الحراك السياسي اليوم تطرح أمامها فرصا وتحديات متتالية قد تمكنها إن احسن التعامل معها استراتيجيا وحركيا من القفز فوق وضعية الوهن الحالية وصولا الي آفاق فعل مختلفة جذريا. من ينظر الآن إلي النقاشات الخلافية الدائرة في صفوف المعارضة حول الأسلوب الأنجح لمواجهة الحزب الوطني في الانتخابات التشريعية ويتتبع تبلور توجه تكوين جبهة موحدة بمرشحين مشتركين من عدد من الأحزاب والحركات في مقابل تفضيل قوي اخري لمنطق العمل السياسي المنفرد بحثا عن التحقق من وزنها الفعلي في الشارع المصري أو خوفا من المساومة علي قناعاتها الرئيسية يكتشف درجة من النضوج الاستراتيجي ندرت في السنوات الماضية. حركيا تبدو المعارضة المصرية قبيل الانتخابات وعلي خلاف حديث المقاطعة العقيم في سبتمبر الماضي اكثر اهتماما بحشد قواها لضمان مشاركة شعبية واسعة وصياغة برامج انتخابية حقيقية لا تقتصر علي مجرد رفض الأوضاع القائمة بل تقدم رؤي بديلة لمستقبل الاصلاح والأهم لمجمل الأوضاع المجتمعية. بالطبع هناك العديد من المحاذير المرتبطة إما باستمرار قدرة الحزب الوطني الحاكم علي استخدام مؤسسات الدولة في صراعه الانتخابي مع المعارضة وما ترتبه من تجاوزات أو درجة الإقبال الفعلي للناخبين المصريين علي المشاركة في العملية التصويتية، وكلاهما يضع علامات استفهام مشروعة علي التحليل السابق. علي الرغم من ذلك يظل التفاؤل بأن تؤدي الانتخابات المقبلة الي تكوين مجلس شعب جديد اكثر توازنا من نظيره الحالي ما يبرره. إن صدقت هذه الرؤية، تصبح المهمة الكبري امام مجلس2005 2010 هي التفاوض حول خطوات الاصلاح في المرحلة القادمة واهمها الغاء قانون الطوارئ وتعديل النظام الانتخابي بما يتلاءم مع اولويات التحول الديمقراطي واعادة النظر في مجمل القيود المفروضة علي العمل السياسي الحزبي وغير الحزبي، واخيرا الشروع في نقاش وطني صادق حول الدستور. مجددا، لن يختلف المجلس الجديد بصورة راديكالية عن سابقه ولن تغيب عنه محاولات الحزب الحاكم لضمان هيمنته علي مجمل العملية التشريعية وتمرير ما يراه ملائما من تعديلات والمصادرة علي غيرها، إلا أن احتمال حصول المعارضة حزبية ومستقلة علي نسبة تتراوح بين15 و20% من المقاعد في سياق حراك سياسي متواصل وخطاب اصلاحي رسمي قد تسهم في تطوير آليات عمل المجلس وتفعل دوره في صناعة التوافق العام علي نحو يعيد له هيبته تدريجيا. فتصور إمكانية إدارة عملية التحول الديمقراطي في مصر بدون سلطة تشريعية فعالة هو درب من دروب الخيال. ------------------------------------------------------------ الاهرام