البنا ذهب يستجدي عبد الرحمن عمار في محاولة لإيقاف قرار الحل في اللحظات الأخيرة صدام الإخوان والسعديين انتهي بقتل النقراشي والبنا وحل الجماعة التشابه الفكري بين الإخوان والثورة كان يحمل داخله بذرة الصدام الذي ظهر لاحقا مقابلة عبد الرحمن عمار لما لم تفلح شكاية البنا للملك, حيث قام الأخير بإرسالها إلي رئيس الوزراء, لم يجد مرشد الإخوان بدا من السعي لمقابلة النقراشي باشا, الذي رفض من جانبه مقابلته, وبعد أكثر من أربع ساعات ظل فيها البنا منتظرا لقاء رئيس الوزراء ووزير الداخلية قابله عبد الرحمن عمار وكيل وزارة الداخلية آنذاك في مكتبه وكتب بعد المقابلة هذا التقرير الذي رفعه الي النقراشي باشا بما دار في اللقاء هذا نصه كاملا: حضر الليلة الشيخ حسن البنا إلي ديوان وزارة الداخلية وطلب مقابلتنا بحجة الافضاء الينا بأمور هامة يرغب في ابلاغها فورا إلي حضرة صاحب الدولة رئيس مجلس الوزراء, فلما قابلناه حدثنا بأنه قد علم أن الحكومة أصدرت قرارا بحل جماعة الاخوان المسلمين أو هي في سبيل اصدار هذا القرار وأنه يريد أن ينهي إلي دولة رئيس الوزراء بأنه قد عول نهائيا علي ترك الاشتغال بالشئون السياسية وقصر نشاط الجماعة علي الشئون الدينية كما كان الحال في بداية قيام جماعة الإخوان المسلمين وأنه يود من كل قلبه التعاون مع دولة الرئيس تعاونا وثيقا مؤيدا للحكومة في كل الأمور وأنه كفيل بتوجيه رجاله في جميع الجهات بالسير علي مقتضي هذا الاتجاه, كما أعرب عن أسفه لما وقع من جرائم ارتكبها اشخاص يري أنهم اندسوا علي الإخوان المسلمين, وراح يترحم علي سليم زكي باشا قائلا انه كان صديقا حميما له وكان بينهما تعاون وثيق وتفاهم تام ثم تكل مادحا دولة النقراشي باشا قائلا انه علي يقين من نزاهته وحرصه علي خدمة وطنه وعدالته في كل الامور. وأنه لو تمكن من مقابلة دولته بعد أن مضت سنتان لم يلتقيا فيهما بسبب جفوة أثارها الوشاة لأقنع دولته بأنه من صالح الحكومة والامة معا أن يبقي الصرح الضخم الذي جاهد الاخوان المسلمون سنوات طويلة في اقامته كما قال أنه يعز عليه بل ويزعجه ويؤلمه أن ينهار هذا الصرح علي يد دولة النقراشي باشا الحريص علي خدمة بلاده. ثم قال انه اذا قدر أن تمضي الحكومة في ما اعتزمته من حل الجماعة فانه يؤكد أنه ورجاله سوف لا تبدر منهم بادرة تعكر صفو الأمن اذ لا يقدم علي مثل هذا العمل الا مجنون, كما أكد أن الحكومة لو تعاونت معه لضمن للبلاد أمنا شاملا. وختم حديثه بقوله أنه علي استعداد للعودة بجماعة الاخوان المسلمين الي قواعدها بعيدا عن السياسة والاحزاب متوفرا علي خدمة الدين ونشر تعاليمه بل انه يتمني لو استطاع أن يعتكف في بيته ويقرأ ويؤلف مؤثرا حياة العزة ثم جعل يبكي بكاء شديدا ويقول انه سيعود الي مقره في انتظار تعليمات دولة رئيس الوزراء داعيا له بالخير والتوفيق. وكيل الداخلية 8 ديسمبر سنة1948. ويتضح من تقرير وكيل وزارة الداخلية, والمذكرة التي وجهها البنا قبلها الي الملك, أن السيف كان قد سبق العزل, وأن أوان صعود الجماعة التي الهاوية قد حل, وسقطت الجماعة بالفعل الي الهاوية, التي أسموها بتعبيرهم المحنة الأولي, حيث تم حل الجماعة, ورد الإخوان بإغتيال النقراشي, ورد السعديون فاغتالوا البنا لتبدأ الجماعة مرحلة أخري من الصعود إلي الهاوية. وبعد التصادم مع السعديين ومحنة الجماعة الأولي كما يسمونها في أدبياتهم بسنوات قليلة جاءت ثورة يوليو, وتكرر الصدام مع ثورة يوليو خلال الحقبة الناصرية, علي الرغم من البداية التي توحي بالتعاون والتنسيق, ذلك أن الخطاب الفضفاض قادر علي صناعة التقارب والتصادم معا!. القراءة التي نقدمها للعلاقة بين جماعة الإخوان وثورة يوليو, في مرحلتها الناصرية, تبدأ بتحليل عن طبيعة السلطة الناصرية, سياسيا وفكريا واجتماعيا, وصولا إلي رصد التقارب الملموس بين الحركة والثورة, وهو ما يتطلب الإشارة التحليلية الموجزة إلي موقف ثورة يوليو وعبد الناصر من الدين, السلاح الأساسي الأكثر بروزا وفاعلية في خطاب الإخوان المسلمين. لقد أدت عوامل موضوعية متداخلة إلي صناعة التقارب والتعاون المؤقت بين الإخوان والثورة, وعوامل أخري مماثلة قادت إلي الصدام الدموي العنيف. وليس منطقيا بطبيعة الحال أن يتحمل أحد طرفي الصدام مسئولية كاملة منفردة عن التوتر والتناحر, فالأخطاء مشتركة, والأهداف المختلفة تسفر عن صراع كان كامنا ومؤجلا. وقد انتهت أغلب الدراسات في مجال النظم السياسية المقارنة كما تورد الدكتورة هالة مصطفي في كتابها المهم الدولة والحركات الإسلامية المعارضة إلي إدراج النظام السياسي المصري في عهد الرئيس عبد الناصر ضمن النظم السلطويةAuthoiyarianRegine وذلك في إطار التفرقة بين كل من النظم الديمقراطية, والسلطوية, والشمولية, ووفق هذا التصنيف فإن النظام السلطوي يتسم بعدد من الخصائص تميزه عن كل من النمطين السابقين أهمها: *أنه نظام لا ينهض علي وجود أيديولوجية سياسية قوية متماسكة. * وجود حزب سياسي واحد يحتكر القوة السياسية وإن كان ذلك لا يمنع وجود تنظيمات سياسية أخري مستقلة عنه ولكنها تكون في العادة محدودة الفعالية, وفي المقابل فإن هذا الحزب السلطوي ليس تنظيما عقائديا, ولا توجد شروط صارمة لعضويته بل يعتبر حزبا مفتوحا, ولذلك فقد توجد معارضة للنظام من داخل الحزب. * لاتوجد تعبئة سياسية في النظام السياسي السلطوي إلا في بداية قيامه, أما بعد استقراره فإن النظام لا يميل إلي الاعتماد علي التعبئة الجماهيرية. * يهتم النظام بالسيطرة علي الجيش ويحتل القادة العسكريون وضعا متميزا في النظام السياسي, حيث يتحولون إلي سياسيين, ويشتركون مع الفنيين والبيروقراطيين في اتخاذ القرارات الرئيسية, ولكن كلما استقر النظام قلت نسبة العسكريين الذين يعينون في المناصب السياسية ويتجه النظام إلي إبعاد الجيش عن السياسة, وتأكيد صفة الاحتراف العسكري, ولكن مع احتفاظ قادة النظام بصلات قوية مع الجيش لضمان استمرار ولائه للنظام السياسي. (د. هالة مصطفي: الدولة والحركات الإسلامية المعارضة, ص112) ومن هنا لم يعرف النظام الناصري أيديولوجية سياسية متكاملة, وإنما عرف مجموعة من المبادئ والأهداف العامة التي يصعب وصفها ب الأيديولوجية, فلم تنظر نخبة الضباط الأحرار إلي مسألة وجود نظرية أو أيديولوجية سياسية للنظام الجديد باعتبارها قضية حاسمة أو ذات أولوية متقدمة لازمة للسير علي طريق الثورة أو بناء تنظيم حزبي سياسي فعال, وظلت هذه القضية ثانوية بأكثر من معني. فالحركة ظلت لدي عبدالناصر حقيقة سابقة علي الفكر وارتبط ذلك بالميل إلي التقليل من شأن الأفكار والنظريات وأخذها بدرجة عالية من التبسيط. ومن ناحية أخري فقد أجمعت غالبية الدراسات التي تناولت أيديولوجية ثورة يوليو1952 علي الطابع التجريبي لها, وهو ما أطلق عليه عبدالناصر منهج التجربة والخطأ. ويتمثل هذا المنهج في حقيقة أن أهم التطورات كانت تجيء بالأساس كرد فعل لإخفاق أو فشل خطير حدث بالفعل, وفرض نتائجه كأمر واقع تتحتم الاستجابة له, وليس نتيجة لدراسة الواقع ونقده كهدف في حد ذاته. وأخيرا فقد اتسمت الأفكار المعلنة للنظام الناصري, بما في ذلك ما جاء في الميثاق بطابع انتقائي واضح وهو الطابع الذي اتسمت به أغلب الأيديولوجيات المعلنة في العالم العربي, والتي يري فيها العديد من الباحثين تلفيقا من مدارس واتجاهات وتيارات فكرية متباينة وجمعها للآراء بطريقة ميكانيكية دون الوصول إلي صيغة تركيبية تجمع هذه الآراء في نسق فكري متكامل( د. علي الدين هلال: تطور الأيديولوجية الرسمية في مصر, في كتاب مصر في ربع قرن1952 1970 ص146). اتسمت النخبة الحاكمة في النظام السياسي المصري بعد1952 بعدد من الخصائص يمكن إيجازها في ثلاث: الأولي: انتماؤها الأساسي إلي الطبقة الوسطي, والثانية: طابعها العسكري أي الانتماء إلي الجيش, والثالثة: هيمنة ما يسمي بالبرجوازية البيروقراطية علي مقاليد الحكم. وفي المقابل أدت سيادة الطابع العسكري علي النخبة الحاكمة إلي الغاء العمل السياسي تماما أو علي الأقل حظر الأساليب السياسية في المجال السياسي, وافترض أن تكون جميع الأنشطة السياسية حكرا علي الجيش( د. هالة مصطفي, مرجع سابق, ص120). أما الطابع البيروقراطي للنخبة الحاكمة, فقد ارتبط بنظام رأسمالية الدولة في ظل النظام الناصري, وما يهم في هذا لمجال هو تلك القوي الاجتماعية التي ارتبطت برأسمالية الدولة, والتي أضحت تعرف باسم البرجوازية البيروقراطية والتي يقصد بها: تلك الطبقة التي تنشئ لنفسها موقعا( احيانا مسيطرا) في علاقات الإنتاج من خلال سيطرتها علي قطاع إنتاجي مملوك ملكية عامة, وقد تديره باسم الدولة وتحصل من خلال ذلك علي امتيازات هائلة. وقد لعبت هذه الخصائص العامة للنظام السياسي, فضلا عن طبيعة التكوين الاجتماعي والسياسي للنخبة الحاكمة, دورا مهما في تحديد استراتيجيات النظام وسياساته تجاه المعارضة السياسية بشكل عام والإسلامية منها بشكل خاص, حيث كان للخلفية التاريخية التي حكمت العلاقة بين النخبة الجديدة لثورة يوليو والمعارضة الإسلامية التي مثلتها جماعة الإخوان المسلمين أثر كبير في إضفاء نوع من الخصوصية علي طبيعة العلاقة التي سادت, والتي تحددت في إطارها إستراتيجية كل منهما إزاء الأخري. نظام يوليو وحركة الإخوان يتفقان في كثير من الملامح والسمات الفكرية والتنظيمية, فضلا عن الأصول الاجتماعية الطبقية المتشابهة, فكلاهما أقرب إلي النظم السلطوية, حيث تغيب الأيديولوجية الواضحة المحددة, وتهيمن الشمولية, ويتم الإعلاء من شأن الزعامة الفردية كمرجعية مطلقة, وتستبعد فكرة التعامل مع الجماهير والاعتماد عليها في صناعة القرار وتنفيذه. النظام الناصري وجماعة الإخوان يتفقان في فكرة الإيمان بمبادئ عامة لا تخلو من الغموض ولا تنجو من الإنشائية, وتجنح إلي التعميم, وتأخذ بالتجريب والقدرة علي التغيير الجذري الذي يتناسب مع المتغيرات الطارئة, ولا تتورع عن الانتقائية التي تجمع المتناقضات لتقديم خطاب سياسي فكري ذي شكل متسق براق. وإذا كان الإخوان المسلمون يرفعون شعارات دينية ويمارسون السياسة, فإن ثورة يوليو بدورها قد رفعت شعارات سياسية دون أن تتخلي عن التوجه الديني بما يترتب عليه من اكتساب الشعبية ومحاربة الخصوم الذين يزايدون عليها في المجال نفسه بالرغم من الزعامة الكاريزمية لعبد الناصر, وفي مجتمع متخلف, تسوده الأمية بمختلف أنماطها نجد أن النظام السياسي في علاقته بالمؤسسة الدينية, وبالرغم من التبعية, والخصوصية في علاقة رجال الدين الرسميين بالنظام والتي تجد جذورها في شرعية الحاكم, والولاء له في التراث السني إلا أن الدين ظل رافدا ضمن روافد عديدة للشرعية السياسية, واستخدم كأداة للتعبئة, والتجنيد السياسي للجماهير ضمن أدوات أخري كما استخدم النص الديني حتي المقدس كأداة للتبرير أي تبرير المقولات التي طرحت للتطبيق والتي قيل إنها اشتراكية, وإن هذه الاشتراكية, ليست مضادة للدين الإسلامي, سواء في أثناء صياغة الميثاق, أو بعد ذلك في الحوارات التي جرت في منتصف الستينيات( عبد الرحيم علي: الإخوان المسلمون.. أزمة تيار التجديد, ص54). التقارب الفكري والتنظمي بين الثورة والإخوان أتاح فرصة كبيرة للتعاون والتنسيق المشترك, كما أنه حمل بذرة الاختلاف والصدام. المشتركات تصنع وفاقا ظاهريا, والطموحات السياسية تمهد للصدام من جديد. بعد أيام قليلة من حركة الجيش في23 يوليو, وبعد أن اطمأن الإخوان تماما إلي نجاح العسكريين في الإطاحة بالنظام الملكي والاستقرار في السلطة, سارعوا إلي إصدار بيان يحددون فيه مفهومهم للإصلاح المنشود في المرحلة الجديدة, وشنوا هجوما عنيفا قاسيا علي الحياة النيابية السابقة, وصولا إلي أن التجربة القديمة فاشلة لا يجوز الأخذ بها, وأن الحياة البرلمانية في كل العهود الحزينة ليست إلا أداة لتبرير شهوات الحكام وإضفاء الشرعية علي المظالم! وطالب الإخوان في بيانهم بإهمال دستور1923 وإسقاطه, مع المطالبة بعقد جمعية تأسيسية تتولي صياغة دستور جديد, يستمد أحكامه من مبادئ الإسلام الرشيدة في كل شئون الحياة( عبدالله إمام: عبدالناصر والإخوان المسلمون, ص38). لا يقنع الإخوان بنقد أوجه الخلل والفساد والمطالبة بالإصلاح, لكنهم يرفضون الحكم الديمقراطي, ويطالبون بنظام جديد تئول إليهم فيه مقاليد السلطة أليسوا وحدهم القادرين علي التطبيق المثالي الصحيح لأفكار ومبادئ الإسلام؟! لقد اندفع الإخوان المسلمون في تأييد ثورة يوليو ومباركة خطواتها, وكان للموقف الودي للجماعة أساسه المتين كما يؤكد ريتشارد ميتشل في كتابه الإخوان المسلمون ففي الوقفة الأولي للثورة ألغي مجلس قيادة الثورة قسم البوليس السري من وزارة الداخلية وصفي نفوذه تماما, وكان من الذين شملهم التطهير محمد الجزار, اكثر رجال القسم عداء للجماعة والذي عرف( بتخصصه) في شئون الإخوان واشتراكه في مؤامرة اغتيال البنا, كذلك تم الإعلان عن الاتجاه إلي إعادة التحقيق في قضية مقتل البنا التي حفظت دون التوصل إلي شيء, كواحد من الإجراءات الأولي التي اتخذها العهد الجديد وقد شملت الاعتقالات التي تلت الانقلاب كما لاحظ أحد المراقبين أعداء معروفين للإخوان, ثم جاء تعيين رشاد مهنا كواحد من الأوصياء الثلاثة علي العرش والإفراج عن المعتقلين السياسيين وأغلبهم من الإخوان في أكتوبر1952, ليعزز جو الارتياح الكبير الذي ساد الجماعة( ريتشاد ميتشل, الإخوان المسلمون, ص51). ومن الوجهة العلنية, نجح الطرفان في الحفاظ علي مظهر العلاقة الودية طوال عام1953, وكان واضحا أن إفلات الإخوان المسلمين من الحملة ضد الأحزاب قد استقر بهم في موقف مرموق في البلاد وقد شارك رجال الحكومة البارزون, بمن في ذلك نجيب وعبدالناصر,في الزيارة السنوية لضريح البنا, شهيد الأمة كما كان يسمي, في13 فبراير1953 الموافق للذكري السنوية الرابعة لوفاته وفي أغسطس عين البهي الخولي أحد أعضاء الجماعة الذي كان مناصرا للحكومة ضابطا للاتصال بين الجماعة وهيئة التحرير ومديرا للإرشاد الديني بالهيئة وفي سبتمبر1952 أنكر الهضيبي علنا وجود أي خلاف أو سوء تفاهم مع النظام وفي الشهر نفسه شكلت الحكومة محكمة الثورة لمحاكمة القادة السياسيين السابقين وكانت أولي قضاياها قضية ابراهيم عبدالهادي, معنية بوجه خاص بدوره في مقتل البنا واضطهاد الإخوان( عبدالله إمام, مرجع سابق, ص42) وإلي لقاء. [email protected]