يكشف المشهد السياسي الراهن بدول عربية كمصر والأردن والمغرب عن مفارقة هامة تتمثل في محدودية التحديات المجتمعية التي تواجهها نخب الحكم على الرغم من الضعف البين لأدائها الاجتماعي والاقتصادي وتهافت سجل إنجازاتها التنموية. فعلى سبيل المثال، ما تزال معدلات الفقر والبطالة والأمية في الدول الثلاث المذكورة مرتفعة للغاية وتتدنى إلى مهابط غير مسبوقة مستويات الخدمة العامة المقدمة في قطاعات حيوية كالتعليم المدرسي والجامعي والصحة والضمانات الاجتماعية لإعانة محدودي الدخل والفقراء والعجائز. أخفقت نحب الحكم المصرية والأردنية والمغربية كذلك في مكافحة ظواهر خطيرة مستشرية ومعطلة للتنمية الحقيقية كالفساد والمحسوبية واستغلال المنصب العام والغياب اللافت للشفافية والمحاسبة كمبادئ ينبغي أن تحكم عمل المؤسسات الرسمية. بعبارة بديلة، نحن هنا أمام نخب حكم فاقدة لشرعية الإنجاز بمعناها التنموي ومضامينها المرتبطة بما اصطلح على تسميته "الحكامة الرشيدة" ومستمرة في إرهاق أغلبيات كبيرة من المواطنين وإذاقتها الأمرين من جراء قسوة الظروف المعيشية واستحالة الأمل في غد أفضل إلى سراب لا أرضية واقعية له. ومع ذلك تهيمن النخب هذه بقبضة سلطوية تبدو اليوم عصية على التغيير، فلا تسمح في المجال السياسي بمنافسة فعلية وتقيد - وإن بدرجات متفاوتة - من حريات المواطنين في التعبير عن الرأي والتنظيم والمشاركة في الشأن العام ولا تواجه في ذات الآن تحديات حقيقية من قبل مجتمعاتها، بل ولا تحتاج في الأغلب الأعم إلى توظيف العنف المفتوح أو القمع الواسع النطاق للسيطرة عليها. تكمن المفارقة إذاً في تواكب عجز نخب الحكم العربية الاجتماعي والاقتصادي وفقدانها لشرعية الإنجاز مع استمرارية مريحة وغير مكلفة للسلطوية، على نحو يناقض من جهة الخبرات العالمية المعاصرة لانهيار أنماط الحكم السلطوي عندما تتعثر مجتمعيا وينتفض المواطنون طلبا لحقوقهم وبحثا عن التغيير ويحفز من جهة أخرى الباحث على التساؤل عن ماهية العوامل المسببة للاستثناء العربي في هذا الصدد. وبعيدا عن المتواتر من أحاديث غير دقيقة تستدعي خصوصية ثقافية أو دينية مزعومة للعرب تباعد بينهم وبين تحدي نخب الحكم السلطوية، ثمة مقاربات ثلاث رئيسية تفسر في ظني الاستمرارية غير المكلفة للسلطوية في دول كمصر والأردن والمغرب من خلال التركيز على الإستراتيجيات والأدوات التي تستخدمها النخب في السيطرة المنظمة على مجتمعاتها وتفتيت مطلبيتها للتغيير أستعرضها فيما يلي بإيجاز. يتمثل مناط نظر المقاربة الأولى في تحليل فعل المؤسسات الأمنية التي تغولت بصورة واضحة خلال الأعوام الماضية وأضحت مخصصاتها المالية تستحوذ على نصيب يتزايد باطراد في الموازنات العامة. لم تعد أدوار الأمنيين قاصرة على تعقب ومراقبة قوى المعارضة والتوظيف الانتقائي للأدوات القمعية إزاء من تراهم النخب مصدرا لتهديدات آنية أو محتملة قد ترد على سيطرتها، بل تجاوزت ذلك باتجاه تغليب منطق الإدارة الأمنية المباشرة للعديد من الملفات المجتمعية والسياسية الحيوية. ابتداء من ملفات كتعيين حدود نشاط منظمات المجتمع المدني والنقابات المهنية والخطوط الحمراء لممارسة الحريات الإعلامية مرورا بهوية وتفاصيل النظم الانتخابية المعمول بها على المستويين الوطني والمحلي وكيفية تقطيع الدوائر الانتخابية وانتهاء بتعديل مواد دستورية وقوانين تنظم مباشرة الحقوق السياسية والمدنية أصبحت المؤسسات الأمنية صاحبة الكلمة الفصل في تحديد توجهات نخب الحكم في مصر والأردن والمغرب ووضعها موضع التنفيذ متقدمة في فاعليتها هنا على كل ما عداها من الجهات التنفيذية الأخرى، وزارات كانت (كالعدل في مصر والمغرب والتنمية السياسية في الأردن على سبيل المثال لا الحصر) أو هيئات متخصصة (كلجان الانتخابات والمجالس الوطنية لحقوق الإنسان). كما تضخم تمثيل الأمنيين في بيروقراطية الدولة وأجهزتها خاصة تلك المضطلعة بتسيير شئون المحليات (على اختلاف مسمياتها بين الدول الثلاث) بصورة بلورت شبكة شاملة ونافذة للإدارة الأمنية "الناعمة" للمجتمع يصعب معها على المواطنين التحرك المنظم لمجابهة السلطوية الجاسمة. يتبع تحليل تغول المؤسسات الأمنية مقاربة ثانية تبحث في نزوع نخب الحكم نحو شخصنة وتركيز السلطة وأدوات ممارستها حول مجموعة صغيرة العدد ذات مصالح متجانسة وتربطها تحالفات عضوية تحد كثيرا من الإمكانية الفعلية لنشوب صراعات داخل النخب، وهذه شكلت في بعض الخبرات العالمية المعاصرة لانهيار أنماط الحكم السلطوي (في أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية) إما قاطرة التغيير أو بداية تبلوره. ففيما وراء الواجهة التعددية لنخب الحكم في مصر والأردن والمغرب بمكوناتها الأمنية والمدنية وبالأجيال المختلفة الممثلة داخلها من كبار السن ومتوسطي العمر وبحساسيتها المتنامية لثنائية النوع التي صعدت في إطارها بعض الوجوه النسائية إلى المستويات العليا للمسئولية التنفيذية، ثمة استمرارية لافتة لشخوص الممارسين الحقيقيين للسلطة وتدوير مستدام لهم في جنبات الحياة السياسية وفقا لإستراتيجيات محكمة. ففي مقابل عدد محدود من العوائل النافذة لا يخلو أي تشكيل وزاري أو موقع أمني هام من أسماء منتمين لها في الأردن، يسيطر على مفاصل ممارسة السلطة في مصر والمغرب شخصيات معروفة منذ زمن ليس بالقصير قد يجدها الباحث في مواقع تشريعية وتنفيذية وحزبية مفصلية لا تغادرها وقد يتتبع أحيانا عبر عقود ومراحل تدويرها من موقع إلى آخر وفقا لقراءة النخب لظروف المرحلة المعنية واستحقاقاتها. ولا يستثنى من هذا النزوع نحو شخصنة وتركيز السلطة وما يضمنه من تجانس في المصالح داخل نخب الحكم سوى التطور الذي طرأ على تكوينها في الدول الثلاث بانفتاحها على مجموعات أصحاب الأعمال ودمجهم بها بأشكال ودرجات متفاوتة، وهو ما قد يرتب مستقبلا تضاربا في المصالح بينهم وبين العناصر الأخرى الفاعلة بالنخب خاصة تلك المرتبطة بالمكون الأمني الطاغي في اللحظة الراهنة. بيد أننا هنا أمام احتمالية استشرافية تبقى مؤشراتها إلى اليوم جد محدودة. أما المقاربة الثالثة فيحركها هاجس تفسير توفر نخب حكم عربية فاقدة لشرعية الإنجاز وعاجزة عن تقديم المنتظر منها مجتمعيا على خطابات رسمية لا تعدم القدرة الإقناعية تخيف بها أغلبية المواطنين على معاناتهم من التغيير وتباعد بينهم وبين الالتئام وراء قوى معارضة تسعى لإنهاء السلطوية. توظف النخب في مصر والأردن والمغرب مؤسساتها الدينية والإعلامية، إن المدارة حكوميا دون مواربة أو المسيطر عملا على فعلها وممارساتها اليومية، لإنتاج لحظة إدراكية ممتدة في المخيلة الجمعية تتوحد في سياقها المطالبة بالتغيير مع تهديد النظام العام وخطر دفع البلاد إلى حالة من الفوضى العارمة ومن ثم الحيلولة دون ترجمة طاقة الرفض لدى المواطنين الناتجة عن سخطهم الحقيقي على أداء النخب إلى عمل شعبي منظم يتخطى حدود النشاط الاحتجاجي العفوي والجزئي الذي شهدته الدول الثلاث طوال الأعوام الماضية وبصورة متصاعدة. وبلا ريب ليست القدرة الإقناعية لخطابات التخويف من التغيير الرسمية بمنقطعة الصلة بفشل العديد من قوى المعارضة التي ترفع لواء الديمقراطية وحقوق الإنسان في تمثل المضامين الفعلية للشعارين في ممارساتها وعجزها هي ومعها منظمات المجتمع المدني المعنية بذات القضايا عن صياغة تصور برنامجي للتغيير المرتجى واضح المعالم ومطمئن لمواطنين تفرض عليهم قسوة الظروف المعيشية الحذر المستمر وعلمتهم تجارب الماضي المريرة الخوف على القليل المتهافت الذي يتمتعون به اليوم من تغيير مستقبلي قد يأتي عليه.