بعد العرض للتحديات الدولية والإقليمية التي يمر بها العرب في خواتيم 2009، انتهيت في مقال الأسبوع الماضي إلى الإشارة إلى التحديات الداخلية التي تواجهها مجتمعاتنا نتيجة أزمة الدولة الوطنية وتعثر الإصلاح السياسي والتنمية المستدامة على الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية، واعدا القراء الكرام بتخصيص مقال اليوم للتحديات هذه. تمر الدولة الوطنية ومؤسساتها في الأغلبية الساحقة من المجتمعات العربية بأزمة عميقة تتنوع مستوياتها ومضامينها. فالتطورات الراهنة في اليمن تنذر بخطر انهيار الدولة على وقع عجز متنامي عن ضمان حد أدنى من الأمن والخدمات الاجتماعية والاقتصادية لأغلبية المواطنين، وكذلك تمرد مناطق في الشمال (حركة الحوثيين) والجنوب (الحراك الانفصالي) على السلطة المركزية بعد أن عانت طويلا من التهميش الاقتصادي والسياسي والثقافي، وأخفقت دينامكية التعددية السياسية منذ الوحدة اليمنية (بداية التسعينيات) في بلورة مساحات حقيقية للتمثيل والتعبير المنظم عن مطالبها داخل المؤسسات الرسمية. ثم يفاقم من خطر انهيار الدولة في اليمن عاملان إضافيان، المحدودية الشديدة لموارد المجتمع الأساسية - خاصة المياه ومصادر الطاقة – في علاقتها بالكثافة السكانية المتصاعدة، والتدخل الخارجي من بعض الأطراف الإقليمية ومن تنظيمات عنفية كالقاعدة التي أضحت بعض مناطق اليمن بمثابة سماوات مفتوحة لفعلها التخريبي. وإن كانت اليمن اليوم، وبدرجة أقل السودان ومن قبلهما الصومال، تواجه خطر انهيار الدولة، فإن مجتمعات عربية أخرى تعاني من تراجع شديد في قدرات وفاعلية الدولة على نحو يفقدها تدريجيا شرعية الوجود أو يحول بينها وبين استعادتها. والإشارة هنا هي من جهة إلى لبنان الذي لم يعد في استطاعة مؤسسات دولته الاضطلاع بدور حقيقي في تخصيص موارد المجتمع الاقتصادية والاجتماعية بعد أن استولت الطوائف وتنظيماتها السياسية على الوظيفة التوزيعية للدولة، ومازالت استعادة الأجهزة العسكرية والأمنية لحقها الدستوري في احتكار الاستخدام المشروع للقوة المسلحة في الداخل والخارج وممارسته على الأرض غائبة بالكامل. من جهة أخرى، تبدو الوضعية الراهنة للعراق مع انهيار استقرار عام 2008 وبدايات 2009 الأمني ومع الشكوك المتنامية في الآونة الأخيرة حول قدرة ورغبة أطراف اللعبة السياسية العراقية الالتزام بقواعد عادلة لإداراتها وللتنافس السلمي على السلطة مثيرة للعديد من المخاوف والتساؤلات بشأن مستقبل الدولة الوطنية وشرعية مؤسساتها. فاستمرار غياب السلم الأهلي والتوافق السياسي والمجتمعي يدفع المواطنون العراقيون للارتماء في أحضان طوائفهم وتنظيماتها كسبيل وحيد لضمان الحماية والحصول على حد أدنى من الخدمات الاجتماعية والاقتصادية، ويحول عملا بينهم وبين تطوير شعور جمعي بالثقة في نزاهة وعدالة الدولة العراقية الجديدة وفاعلية مؤسساتها. يضاف إلى خطر انهيار الدولة في اليمن والسودان وأزمة شرعية الوجود التي ترد على مؤسساتها في لبنان والعراق، وكلا الأمرين يعطي مصداقية كبيرة لاستخدام مفهوم الدولة الفاشلة في الحالات الأربع، مستويان مكملان لأزمة الدولة الوطنية هما الأكثر شيوعا في العالم العربي وإن صعب توصيفهما بعبارات رنانة أو جمل خاطفة. ففي الخليج – باستثناء الكويت - وكذلك في سوريا وليبيا تتبدى ثنائية خطيرة بين مجتمعات تعرضت بناها الاقتصادية والاجتماعية والإدارية خلال العقود الماضية لتحديث أنتج حقائق جديدة على الأرض ودول تحكم هذه المجتمعات، استنادا إلى ترتيبات سياسية قديمة أحادية الطابع باتت تخفق بصورة شبه يومية في الاستجابة لمقتضيات وأفاق التطور المجتمعي. فعلى سبيل المثال، في حين تغيب التعددية السياسية والفصل الفعلي بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية عن الخليج وترد العديد من القيود على ممارسة المواطنين للحريات العامة والمدنية، في استمرارية تقليدية لسلطوية لم تنقطع منذ نشوء أو استقلال دول الخليج، تعكس البنى الاقتصادية المدارة وفقا لمبادئ اقتصاد السوق والإدارية ذات التعقد المشابه لمجتمعات الغرب الرأسمالي، صورة لمجتمعات حديثة لم يعد في الإمكان اختزالها في القبيلة والعشيرة والولاءات البسيطة لأولي الأمر. وبدرجة أقل يظهر الواقع السوري والليبي الراهن ذات الثنائية الخطيرة، المجتمع المتطور المعقد في مواجهة الدولة التقليدية الأحادية، وإن اكتست الدولة بالرداء الجمهوري ورفعت مؤسساتها شعارات تقدمية. وعلى الرغم من نجاح دول الخليج وسوريا وليبيا إلى اليوم في المحافظة على استقرار الحكم إلى حد بعيد، معتمدين في ذلك إن على ريع الوفرة النفطية أو قمع الأجهزة الأمنية أو كليهما، إلا أن ثنائية المجتمع المتطور والدولة التقليدية تنذر بتوترات قادمة سيرتبها عملا نزوع قوى المجتمع الحية إلى الاصطدام بحكام الدول لانتزاع المزيد من الحريات المدنية والعامة وللدفع باتجاه تحديث المؤسسات. ثم يأتي غياب الرضاء الشعبي عن السياسة والساسة في مجتمعات كالمغرب والجزائر وتونس ومصر والأردن، وهي في المجمل تتمتع بتواكب حداثة بنى مجتمعاتها مع حداثة ظاهرية لمؤسساتها ولا تتعرض شرعية وجود دولها لمساءلة شعبية واسعة النطاق، ليشكل المستوى الأخير لأزمة الدولة الوطنية في العالم العربي. تختلف طبيعة الترتيبات السياسية في المجتمعات محل النظر هنا وتتنوع مكونات نخب الحكم بها، كما تتفاوت قدرات مؤسسات الدولة على ضمان الخدمات الاقتصادية والاجتماعية الأساسية للمواطنين، وتتطور الفجوة بين الأغنياء والفقراء في اتجاهات متباينة، بعضها إيجابي كحالة تونس التي نمت طبقتها الوسطى سريعا خلال العقود الثلاث الماضية، والبعض الآخر سلبي كالمثالين المغربي والمصري، وبهما يضغط الفقر على ما يزيد عن 20 بالمئة من المواطنين. مع ذلك، يوحد هذه المجتمعات تصاعد معدلات الرفض الشعبي الموجه ضد مؤسسات الدولة وحكامها وفقدان قطاعات واسعة من المواطنين الأمل في غد أفضل على الرغم من الاستقرار النسبي الذي تتمتع به الدولة في المغرب العربي ومصر والأردن. والحقيقة أن أبرز إرهاصات هذا الرفض الشعبي أضحت ترتبط في المقام الأول بتواتر الاحتجاجات الاجتماعية ذات الخلفيات المحددة، كمكافحة الغلاء والبطالة وتحسين الخدمات الأساسية ومستويات الأجور والإعانات المقدمة لمحدودي الدخل وغيرها، وبدرجة أقل بالعزوف الشعبي عن المشاركة في الحياة السياسية الرسمية بمقاطعة الانتخابات والابتعاد عن الأحزاب بعد أن شاع الشك بصدقيتها وقدرتها على التعبير المنظم عن مطالب وتطلعات المواطنين. تثقل كاهلنا أزمة الدولة الوطنية في العالم العربي بمستوياتها الأربع، خطر انهيار الدولة وتحدي فقدانها شرعية الوجود وثنائية المجتمع المتطور في مواجهة الدولة التقليدية وغياب الرضاء الشعبي في الدول المستقرة، وتحول دون اضطلاع مؤسسات الدولة بأدوارها ووظائفها الرئيسية. والحصيلة المؤلمة لذلك في حدها الأدنى هي إعاقة التنمية المستدامة في مجتمعاتنا واستمرار تعثر مساعي التحول نحو الديمقراطية والحكم الرشيد، وفي حدها الأقصى تفكك الدولة وتقطع أوصال المجتمع. هنا تكمن التحديات الداخلية الكبرى التي سنواجهها كعرب خلال الأعوام القادمة وهنا مناط البحث عن سبل وإستراتيجيات الحل. فهل ستسمح ثقافتنا السياسية وبنية نقاشاتنا العامة، بما صار يغشاهما من تحايل في الطرح وتهافت في القضايا، بالتناول الجاد للتحديات المترتبة على أزمة الدولة الوطنية دون خطوط حمراء وبموضوعية جريئة تتناسب مع ما يتهددنا إن في اليمن ولبنان أو في الخليج والمغرب العربي ومصر؟ أغالب شكوكي وتشاؤمي لأضع كلمة "أتمنى".