خلال الأشهر الأخيرة، بدأت التداعيات الفعلية للأزمة الاقتصادية والمالية العالمية على الدول العربية غير المصدرة للنفط في الظهور. تراجع الطلب العالمي وتناقص معدلات الاستثمارات الخارجية وانخفاض تحويلات العمالة من الخارج وحصيلة السياحة الأجنبية ترتب مجتمعة، في دول كالمغرب ومصر والأردن، أزمة اقتصادية حادة ذات أبعاد سياسية واجتماعية خطيرة. فالمؤسسات الدولية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي تتوقع تراجع نسب نمو الناتج المحلي لعام 2009 في المغرب من 5.4% إلى 4.4%، في مصر من 7.2% إلى 3.6%، وفي الأردن من 5.6% إلى 3%. وإذا أخذنا في الاعتبار أن اقتصاديات الدول الثلاث واجهت في الفترة من 2003 إلى 2007 مشكلتي توالي ارتفاع معدلات البطالة والفقر على الرغم من أن هذه الفترة شهدت تحسنا واضحا في مؤشرات الأداء الاقتصادي العام ونسب النمو، لنا أن نستشرف ما سيكون عليه الحال مع تراجع نسب النمو في العام الحالي، وعلى الأرجح في الأعوام القليلة القادمة. وللتدليل، لم يسبب ارتفاع نسبة نمو الناتج المحلي في مصر من 3.1% عام 2002 إلى 6.8% عام 2006 أي تراجع لمعدلات البطالة، بل استمرت الأخيرة في الصعود لتتجاوز حاجز 11% عام 2005 بعد أن كانت 10% عام 2002. خلال العام الجاري، تنتظر المؤسسات الدولية أن تقفز معدلات البطالة في مصر إلى 13.9% وفي المغرب من 9.5% عام 2008 إلى 10.3. أما معدلات الفقر فتأخذها أيضا التوقعات الدولية إلى وجهة تصاعدية تدور حول نسبة 19% بالمغرب و20% بمصر و15% بالأردن. وعندما نضيف إلى ذلك المستويات بالغة الارتفاع للدين المحلي، وهي 76% من الناتج المحلي المصري و66% من المغربي و48% من الأردني، تصبح الصورة الكلية لاقتصاديات الدول الثلاث شديدة القتامة. وواقع الأمر أن الحصاد السياسي والاجتماعي الرئيسي لتراجع نسب نمو الناتج المحلي، وما يستتبعه من تعميق خطير لمشكلات البطالة والفقر والدين المحلي، إنما يتمثل في تنامي ظاهرة الاحتجاج الشعبي المرتبطة بالمطالب الاقتصادية والاجتماعية لقطاعات المواطنين محدودة الدخل والفقيرة. تشهد المغرب ومصر، وبدرجة أقل الأردن، في الآونة الأخيرة أنشطة احتجاجية متزايدة تتفاوت من التظاهرات إلى الاعتصامات مرورا بمحاولات لتنظيم إضرابات عمالية ومهنية وعامة. ويلفت النظر في هذا السياق حقيقة أن المجموعات التي تدير الأنشطة الاحتجاجية في الدول الثلاث لم ترفع على الإطلاق يافطات سياسية، بل قصرت بوعي مطالبها على قضايا من شاكلة تحسين مستويات الأجور والضمانات الاجتماعية وإعانات البطالة والفقر وكذلك بقت بعيدة في حركتها الفعلية عن القوى السياسية المنظمة في المعارضة الرسمية (الأحزاب في الدول الثلاث) أو غير الرسمية (جماعة الإخوان المسلمين المصرية). وبجانب التداعيات الحادة للأزمة العالمية الراهنة عليها، يجمع المغرب ومصر والأردن أيضا اعتياد حكوماتها التعامل مع تراجع نسب نمو الناتج المحلي وحدة مشكلات البطالة والفقر وأبعادها السياسية والاجتماعية. تقليديا، تأرجح تعامل حكومات الدول الثلاث مع أزماتها الاقتصادية في الماضي القريب بين إستراتيجيتين، تعويل على إصلاحات اقتصادية وبرامج للضمان الاجتماعي من جهة واعتماد على صناعة انفتاح سياسي مؤقت يهدف إلى الحد من ضغط المجتمع على الحكومات من جهة أخرى. منذ النصف الثاني للسبعينيات في مصر ونهاية الثمانينيات في المغرب والأردن، شاهدنا في الدول الثلاث تعاقب لمراحل طبقت بها إصلاحات اقتصادية اتجهت نحو تحرير السوق وتشجيع القطاع الخاص وفتح الباب للاستثمارات الخارجية عربية وغير عربية وكونت بها صناديق للضمان الاجتماعي، ومراحل أخرى اتسمت بالتركيز الجزئي على الانفتاح السياسي وضمانات الحريات العامة وحقوق الإنسان كانت بداياتها في مصر السماح بالتعددية الحزبية في 1976-1977، وفي الأردن والمغرب إجراء انتخابات تشريعية نزيهة في 1991 و1993 على التوالي. تحليل ردود أفعال واستجابات الحكومات المغربية والمصرية والأردنية للأزمة العالمية الراهنة يظهر تعويلها الكامل على إستراتيجية الإصلاح الاقتصادي والضمانات الاجتماعية وغياب إستراتيجية الانفتاح السياسي. خلال الأشهر الأخيرة، طالبت حكومات الدول الثلاث مجالسها التشريعية، وهي تسيطر عليها بصياغات تتراوح بين تأمين أغلبية برلمانية مريحة لحزب الحكومة في مجلس الشعب المصري أو لأحزاب الائتلاف الحاكم في المغرب وهيمنة القوى الحليفة للحكومة على البرلمان كما هو حال الأردن، بالتصديق على تشريعات وسياسات جديدة تهدف إلى تقديم مساعدات إضافية إلى محدودي الدخل والفقراء والعاطلين عن العمل وإعادة هيكلة صناديق الضمان الاجتماعي فضلا عن إدخال إصلاحات في بعض القطاعات الاقتصادية الحيوية كصناعة النسيج في المغرب وتقديم دعم حكومي للصناعات والزراعات التصديرية في مصر. أما نزوع الحكومات نحو استبعاد الانفتاح السياسي كإستراتيجية للتعامل مع الأزمة الراهنة فيعود ولا شك إلى عاملين أساسيين. وبينما يتمثل أولهما، وكما سبقت الإشارة، في حقيقة أن المطالب التي ترفعها اليوم قطاعات واسعة من المواطنين باتجاه الحكومات هي ذات طبيعة اقتصادية واجتماعية صريحة ولا خلفية سياسية لها، يستند العامل الثاني إلى كون حكومات الدول الثلاث تدرك جيدا أن خطوات الانفتاح السياسي الجزئي وبعد عقود ثلاث من تطبيقها في مصر وما يربو على عقدين في حالتي المغرب والأردن قد خسرت إلى حد بعيد جاذبيتها الشعبية ولم تعد قادرة على تنفيس الضغط المجتمعي بمجرد الوعد بالتحول نحو الديمقراطية وضمان الحريات العامة وحقوق الإنسان. من يتابع التدني الصادم لنسب إقبال مواطني الدول الثلاث على المشاركة في انتخابات الأعوام الماضية، رئاسية وتشريعية ومحلية، يستطيع أن يدرك مدى محدودية المصداقية الشعبية لخطوات انفتاح سياسي لم تدفع نحو تداول حقيقي للسلطة أو ممارسة ديمقراطية فعلية وأن يستشعر خطورة حالة الإحباط العام بين المواطنين على مستقبل الدول الثلاث. مع ذلك، يظل التعويل على إستراتيجية الإصلاح الاقتصادي والضمانات الاجتماعية لاحتواء تداعيات الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية في المغرب ومصر والأردن واستبعاد الانفتاح السياسي أمرا تحفه مخاطر عدة. فسجل حكومات الدول الثلاث في تطبيق إصلاحات اقتصادية وتطوير شبكات فعالة للضمان الاجتماعي منذ السبعينيات، وبشهادة معظم المؤسسات الدولية، شديد التواضع، كما أن المنحنى التصاعدي للأزمة الراهنة والمتوقع استمراره إلى عام 2012 سيعمق بكل التأكيد من مشكلات البطالة والفقر والدين المحلي وغيرها في الدول الثلاث ويواجه حكوماتها بمعضلة محدودية الآثار الإيجابية لإصلاحاتها. نحن أمام أعوام قادمة قاسية على مواطني المغرب ومصر والأردن، وبالأخص على محدودي الدخل والفقراء بينهم.