ليست الظروف التي تواجهها مصر اليوم كتلك التي كانت منذ أوائل العقد الماضي ، فشرعية نظام مبارك في جزء مهم منها كانت القضاء علي الإرهاب ممثلا في التحدي الإسلامي في ذلك الوقت وهو الجماعة الإسلامية وتنظيم الجهاد ، واستطاعت الدولة أن تنتصر علي الأقل في معركة المنازلة العسكرية والفكرية مع الجماعة الإسلامية التي أعلنت تراجعها الكامل عن ثوابتها الفكرية التي انطلقت منها للعنف ، وأسست لرؤي فقهية جديدة تؤكد علي فكرة طاعة النظام القائم وعدم منازعته أو مناكفته فضلا عن مقاومته أو الخروج عليه . وانسحب تنظيم الجهاد من الساحة المصرية إلي فضاءات عولمية جديدة ركز جهوده فيها للتعاون مع القاعدة ضد ما اعتبره قياديو التنظيمين خطرا أمريكيا علي العالم الإسلامي يحمل لغة حداثية وحقوقية ولكنه يستبطن ضميرا صليبيا متعصبا وعنيفا لا يعرف الرحمة ، كما نظرإلي الخطر الأمريكي في أحد أبعاده الخطيرة في تحالفه مع الصهاينة ضد قضايا المسلمين وعالمهم ، وأصبح لدينا منظور حضاري وثقافي في الصراع أشبه بما أطلقه " هنتنجتون " بعد نهاية الحرب الباردة . وتمثلت الكارثة الكبيرة في رد الفعل الأمريكي الهائج بأثر ضربة سبتمبر حيث تم شن حرب علي نظام طالبان وتدمير أفغانستان بشكل كامل وارتكبت مجازر لمدنيين وانتهاكات مرعبة ومذهلة لحقوق الإنسان المسلم من جانب القوات الأمريكية وتحالف الشمال كما حدث في قلعة جانجي ، ثم كانت الكارثة المدمرة باختلاق أسباب ثبت أنها زائفة لشن الحرب علي العراق وهنا صرنا أمام تنفيذ عملي لتصورات الحرب الحضارية كما أسس لها" فوكوياما " وهنتنجتون " ومعظم قادة الفكر والرأي في مراكزالأبحاث الأمريكية ، والحرب الثقافية هي أخطر أنواع الحروب قاطبة . لذا فكل العنف الذي ضرب المنطقة بشكل لم تعرفه من قبل جاء في سياق ثقافي وحضاري ، والدين هو جوهر الثقافة والحضارة لأي مجتمع . نحن أمام سياق ثقافي حساس فرضته أمريكا علي العالم العربي وهو ماأنتج ذلك العنف الوحشي والمدمر الذي نراه كل يوم في العراق ، ورأيناه في فلسطين ، لأن العنف هو أداة المقهورين أمام جلاديهم وقاهريهم . وليست التطورات التي عرفتها الأجيال الجديدة من الحالة الإسلامية والتي تبنت الفعل الانتحاري بشكل غير مسبوق إلا تعبيرا واضحا عن السياق الثقافي العام الذي تتشكل في داخله الظاهرة ، لكنها تحمل بصمات ذات أفق اجتماعي واقتصادي وسياسي بلا ريب ، كل ذلك في سياق معولم . واستكمالا لما طرحناه بالأمس ، فإن تفجيرات الأزهر التي جرت هذا العام في إبريل ثم تفجيرات ميدان التحرير والسيدة عائشة والتي وقعت في نهاية الشهر ذاته ، ثم تفجيرات شرم الشيخ الأخيرة والتي تشير التقديرات إلي أن الانتحاريين الذين نفذوا العملية كانوا بين 5- 6 ، وهي أعلي نسبة من عدد الانتحاريين يعرفها تاريخ العنف في مصر ، إذن نحن أمام حالات جديدة ، موقف جديد ،جيل جديد ، هذا الجيل عمره تقريبا يتراوح بين 18- 25 عاما أي أنهم ولدوا مع بداية حكم مبارك ، فالجيل الانتحاري الجديد هو الجيل الذي ولد مع حكم مبارك ، فما الذي جعل هذا الجيل ينزع للانتحار والتدمير لذاته ؟ وهنا هو السؤال الكبير . ورغم تقديرنا للأصوات التي تتحدث عن التضامن وقت الصدمة والمحنة ولكن لا بد من طرح السؤال المهم والواجب وهو لماذا الجيل الذي ولد مع حكم مبارك هو نفسه الذي يذهب لينتحر في عمليات عنف مرعبة وخطيرة ، الانتحار نراه لنفس الجيل ولكن بشكل مختلف ، نراه في الانهيار الاجتماعي لفئات واسعة من هذا الجيل ، الزواج العرفي والإدمان ، بل وفعل الانتحار ذاته كما حدث مع طالب كلية الاقتصاد والعلوم السياسية الذي لم يسعفه حظه ليكون والده من أباء النخبة فلم يستطع اللحاق بالعمل في الخارجية لأنه غير لا ئق اجتماعيا . لا بد من محاسبة النظام الذي أفرز لنا الأجيال الانتحارية الجديدة التي شعرت بغياب القدوة وغياب السند من الدولة ، وأحست بوحشية الدولة وعنفها وقسوتها وجبروتها ، نحن أمام ظاهرة تستحق من أهل الحكم والفكر الارتفاع لمستوي المسئولية لمحاولة فهم هذه الظاهرة وإيقافها والعمل علي تطويقها واستيعابها قبل أن يستفحل خطرها وتهديدها لنا جميعا . كفي تعتيما .. وتسكينا.. وقفزا علي الظواهر الاجتماعية التي تحتاج إلي جد ومسئولية في التعامل معها فمصلحة الأمة والبلد أهم من مصلحة النخبة الحاكمة الرابضة علي كواهلنا من نفس عمر الجيل الانتحاري الذي أنتجته .