بين الجزائر التاريخية الحضارية العريقة، و بين فرنسا السياسية الثقافية "الصديقة"، سماء سوداء، قاتمة السواد. إنها سماء دكناء، ملبدة بالسحب و الغيوم الكريهة الهوجاء؛ مثقلة بالعواصف، و الرعود الدموية النكراء. و بين الجزائر و فرنسا، بحر؛ مرة مياهه، باردة أهواؤه، مسمومة حيتانه، قاتلة أمواجه وشطآنه، جزره أكثر من مده، و صده أقوى من وده. اختلطت أجناسهم بشعبنا,فلم تنصهر, وتصاهرت أعراقهم بدمائنا , فلم تتعلم أو تعتبر. إن الجزائريين والفرنسيين ,في علاقاتهم, أشبه بالزيت والماء, قد يمتزج مؤقتا من شدة التحريك , ولكنه لايلبث أن يعود الزيت زيتا والماء ماء. ذلك هو وضع العلاقات الجزائرية الفرنسية, بعد قرن ونصف قرن من التماس, لم تزدها الأيام إلا تدهورا , بسبب ثقل الإرث الإستعماري المزروع في أرضنا. إن مأساة العلاقات بين بلدينا أن بداية تاريخها استعمار ودمار ,ووسطه استئصال واحتكار,ونهايته هزيمة وانكسار. أبعد هذا كله، يخرج علينا البرلمان الفرنسي، بكل صلف و تبجح، بقانون يمجد الاستعمار، و يشيد بنتائجه؟ أيعقل ان يبرر وزير خارجية فرنسا السيد فليب دوست بلازي، مثل هذا، الإجراء عندما يقول: " ان بداية الاستعمار كانت لحظة مهولة، لكن تبعها تقدم في مجالات عدة، بفضل المدرسين و المهندسين، والأطباء؟ و يقولون معاهدة صداقة! كبرت كلمة تخرج من أفواههم! أحشفا، وسوء كيلة؟ هم رملوا الأيامى، وروعوا اليتامى، و دجنوا الجدد و القدامى، و يريدون – باسم الصداقة المزعومة- ان نتحول الى معاقرين لخمورهم، و الى ندامى. غريب امر الغرب الاستعماري هذا. فهو يطلب من ألمانيا حكومة و شعبا أن تعتذر عما اقترفه النازيون فيها ضد الشعوب الأخرى، فيطالبونها بدفع التعويضات المالية، و حذف بعض الفصول من مناهجها الدراسية، فإذا خرج صوت جزائري، كصوت الرئيس عبد العزيز بو تفليقة مطالبا فرنسا بمجرد الاعتدار عما اقترفه استعمارها ضد الجزائريين إذ دمر حياتهم الاجتماعية المستقرة منذ قرون، و حاول إبادة هو يتهم وترك بلادهم بعد الاستقلال مثقلة بمخزون هائل من العنف، و أعباء إعادة بناء الذات؛ إذا قال هذا تتعالى اصوات شرذمة منهم، كاليميني المتطرف " لوبين" و باقي البلطجية، يملأون العالم صراخا وعويلا؟ ان هذا لمنتهى صيغة الوقاحة. و إذا كان من حق الفرنسيين أن تأخذهم العزة بالإثم و الجرم، و أن يخلعوا برقع الحياء، فكيف نعلل سلوك بعض الجزائريين في موقع القيادة التنفيذية، فتجدهم يمكنون للثقافة الفرنسية من احتلال الألسنة و العقول، و يوسعوا لها مجال النفوذ في الإعلام و التعليم، و الإقتصاد و التنظيم؟ إننا لا نجد تعليلا لهذه الازدواجية في الخطاب الجزائرى، بين ما يطالب به الرئيس بو تفليقة من رد الاعتبار، و بين ما يجسده بعض الجزائريين، من انسلاب و صغار. و لعل أحسن رد نواجه به صلف الاستعمار هو التحرر من قبضته، والتخلص من آثر نفوذه و لغته. ففي عصر الأنظمة المساومة و المقاومة، و في عهد الأنظمة الغالبة، و الطالبة، والتائبة، يجب أن يتحدد موققنا بكل جلاء. لقد انعكس الإرث الاستعماري الثقيل على ثقافة الجزائر فشوهها، و على ألسنة أبنائها فأعقها، و على كرامة الهوية الحضارية فأراقها. فبأي وجه نلقى شهداءنا من العلماء و المجاهدين؟ و بأي عهد نبرر ما نحن فيه من ردة وانتكاسة، و ما يمثله موقفنا من ذلة و تعاسة؟ إن المرحلة جد حرجة، و إن الامتحان صعب و عسير... و بين باريس و ابن باديس، سيتقرر المستقبل، و يتحدد المصير. [email protected]