الوجود الاستعماري في الجزائر، خلف توغلا ثقافيا وتشويها للموروث الحضاري للأمة الجزائرية. لهذا، من فترة الاستقلال إلى يومنا هذا، والحكومات الجزائرية المتعاقبة واجهت مشاكل جمة في إعادة قاطرة الشخصية الجزائرية الأصيلة في أوساط المجتمع إلى سكتها الصحيحة، بدءا من المنظومة التربوية إلى تأميم المحروقات إلى الثورة الزراعية في أواسط السبعينيات إلى التعريب، وهي اجتهادات وجدت الكثير من الصعوبات في صناعة شخصية موحدة متماسكة للفرد الجزائري. لأجل هذا، ظلت باريس، ولعقود بعد استقلال الجزائر، (المعيار) الحقيقي للتعامل الدولي مع الجزائر، وما حادث الطائرة (الارباص) التابعة لشركة الخطوط الجوية الفرنسية التي اختطفت في سنة 1994 بمطار هواري بومدين الدولي بالعاصمة الجزائرية وعزوف الشركة الفرنسية عن التحليق فوق الأراضي الجزائرية، وكيف حذت كل الشركات الموجودة في الجزائر حذو الجوية الفرنسية، إلا دليل على هذا، الأمر الذي انعكس سلبا على الأمة الجزائرية في سنين الأزمة، إذ إنه ضرب عليها حصارا غير معلن، لمجرد التصنيف الفرنسي للجزائر في كل تقاريرها الاقتصادية أو الأمنية أو الحقوقية، مما زاد من متاعب الدولة الجزائرية في تلك الفترة من العقد الماضي.. ما يحسب للرئيس الجزائري الحالي بوتفليقة منذ توليه مقاليد الحكم في الجزائر، تعمده استعمال اللغة الفرنسية حتى في خطاباته الرسمية الداخلية، ليتجنب العزلة وليدخل البيت الأوربي من البوابة الرئيسية، ولأنه فهم ماذا يعني مفتاح فرنسا للجزائر في فك العزلة المضروبة عليها، الأمر الذي التقطه الفرنسيون جيدا. فكانت فترة بوتفليقة الأولى، فرصة لفك الخناق، وزيارات المسئولين الفرنسيين للجزائر بعد انقطاع، كان له الأثر الايجابي على الحركية السياسية للجزائر، ابتداء من عقد الشراكة مع الاتحاد الأوربي إلى المفاوضات الجارية حتى الآن للانخراط في منظمة التجارة العالمية. الآن، وقد صارت الجزائر تتفاوض من مركز قوة بعد الوهن الذي أصابها جراء سنين الدم والدمار، كان لزاما عليها أن ترتب الدول، كل حسب ما أهميته، وأدركت أكثر من أي وقت مضى أن المعيار الفرنسي لقياس الحالة الجزائرية، والتي كانت تتعامل به أغلب دول العالم للجزائر، لابد أن يتغير، وأن يفكك هذا التلازم، وتصبح للجزائر خصوصيتها في التعامل دون الرجوع إلى هذه المقاييس، التي أربكت وأعاقت الكثير من محاولات النهوض. والتوجه الجديد للجزائر في السياسة الخارجية وشد عصى التفاوض مع الأوربيين والفرنسيين تحديدا، والذي يُترجم في تنوع التعاملات الاقتصادية والعلاقات السياسية، ما هو في حقيقة الأمر إلا محاولة لإعادة تقويم وتصحيح مبدأ السيادة الوطنية، وقد نجح الرئيس بوتفليقة في هذا بشكل كبير، والحضور القوي للتمثيل الجزائري في أغلب المناسبات الدولية، هو مؤشر على حالة التعافي واسترجاع الهيبة التي تتمتع بها الجزائر دوليا، وهو ما لم يكن ينتظره الفرنسيون. والزيارات المتتالية للمسئولين الفرنسيين إلى الجزائر، ومحاولة الاستدراك، تعكس حالة الإرباك الحقيقي لقصر (الاليزي) في مسعى لإعادة السيطرة على النفوذ في الجزائر. والزيارة الأخيرة (الفاشلة) للوزير الخارجية الفرنسي فليب دوست بلازي للجزائر في محاولة يائسة لفرض سياسة الأمر الواقع من أجل إبرام معاهدة الصداقة بين باريس والجزائر، وما سمعه (دوست بلازي) من الرئيس شخصيا من حديث لم يتجرأ أحد من قبل في إسماعه لفرنسا، يشيران إلى أن (الندية) أصبحت سيدة الموقف في التعامل الجزائري مع فرنسا. ومن جهة أخرى، تلعب الجزائر الآن ورقة أمريكا من خلال تعزيز العلاقات معها، وهو (تكتيك) جزائري للخروج من الحصار التاريخي ورفع الوصاية غير المعلنة لباريس على الجزائر. ثم إن تقاطع المصالح والقناعات بين الجزائروواشنطن فيما يسمى الحرب على الإرهاب، وإستراتجية أمريكا في تأمين مصادر الطاقة في ظل التوتر الكبير الذي يسود منطقة الشرق الأوسط والمفاجئة الإيرانية الأخيرة في ملفها النووي، كلها عوامل تجعل من الجزائر حليفا إستراتيجيا لأمريكا. كما أن التحرك (النشط) للمسئولين الأمريكان في اتجاه الجزائر، والزيارة الأخيرة لوزير الخارجية الجزائري إلى واشنطن مباشرة بعد الزيارة التي قادت وزير خارجية فرنسا للجزائر، والاستقبال الذي حظي به في واشنطن من قبل كبار مسئولي الإدارة الأمريكية، والهدية التي قدمت له من طرف وزيرة خارجية أمريكا كوندليزا رايس المتمثلة في النسخة الأصلية لمعاهدة السلم والصداقة بين داي الجزائر وجورج واشنطن التي أبرمت في 5 سبتمبر 1795، جميعها رسائل مبطنة للأوروبيين وفرنسا تحديدا تعكس بعد العلاقات التاريخية بين البلدين ورسائل واضحة كذلك للتوجه الجزائري الجديد، خاصة وأن الجزائر أثناء العشرية الدموية التي مرت بها، لم تجد غير أمريكا لفك العزلة غير المعلنة عنها من خلال استثماراتها في قطاع النفط، كل هذا يحسب لواشنطن مقابل التخلي شبه الكلي للدول الأوربية وعزوفها عن دخول السوق الجزائرية، بل وأكثر من هذا، شكلت في الكثير من الأحيان مصدر قلق وإزعاج السلطات الجزائرية في تلك الفترة. وما نشر مؤخرا عن زيارة نائب الرئيس الأمريكي رفقة وزيرة الخارجية كوندليزا رايس نهاية شهر مايو، هو في حد ذاته توغل حقيقي لأمريكا في منطقة شمال إفريقيا عبر بوابة الجزائر، ويعكس كذلك حجم المبادلات التجارية بين البلدين التي قاربت 12 مليار دولار في سنة 2005، والدعوة الصريحة للسيد بجاوي وزير خارجية الجزائر للمستثمرين الأمريكان للدخول إلى السوق الجزائرية في الاستثمار خارج المحروقات، وكلامه بشأن حلول أمريكا مكان فرنسا في الجزائر، حيث إنه استطرد قائلا: (إن العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية بين الجزائروفرنسا جيدة، ولكن يوجد في النفوس شيء لا يسمح بالذهاب أبعد مما هو الآن، ومقارنة بالولايات المتحدةالأمريكية، لا تملك فرنسا نفس الثقل بالجزائر، وهي خيارات إستراتجية للجزائر لتعزيز وتقوية العلاقات الجزائريةالأمريكية)، واختيار وزير خارجية الجزائر لمجلس العلاقات الخارجية بواشنطن للإدلاء بهذا التصريح، لم يكن اعتباطيا بل كان مدروسا، لتصل الرسالة لأصحابها كل حسب مكانه. تحول الجزائر في علاقتها مع فرنسا، يأتي في وقت تبدو فيه باريس بحاجة ماسة إلى توثيق العلاقة مع المستعمرة القديمة، ومكن هذا الجزائر من انتزاع هامش كبير في رسم خريطة طريقها في صوغ شخصيتها الدولية والرهان على التوازنات العالمية، والتلويح بواشنطن لكبح جماح باريس، وأن الاقتصاد، لا السياسة، هو صانع التوجهات المستقبلية للجزائر. المصدر: العصر