وأخيرا أتمت الحاجة زينب رحلتها الطويلة والشاقة والغريبة والمثيرة ، رحلت عن عالمنا الحاجة زينب الغزالي بعد أن عاصرت ستة عهود حكم في مصر ، ودوامات من التغيير والثورة والانقلابات الفكرية والسياسية المأساوية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار ، منذ ثورة سعد زغلول إلى الجهاد ضد الإنجليز إلى بدايات تبلور النهضة النسائية في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين ، إلى تأسيس أول منظمة نسائية إسلامية الطابع ، مرورا بمحنة السجن ومعاناته والعمل السري والعلني والتنظيمي والفردي ، ومجالسة الملوك والأمراء ومصارعة الجلادين والقتلة ، كم هي مرهقة تلك الرحلة الطويلة يا حاجة زينب ، وكم هي رائعة أيضا ، وكم كنت صبورة ومناضلة وجسورة ، زينب الغزالي حالة خاصة في تاريخ المرأة المصرية ، هي من أتراب هدى شعراوي وسيزا نبراوي وأمينة السعيد وغيرهن ممن اصطلح على تسميتهن " رائدات العمل النسوي " بيد أن زينب الغزالي تميزت بينهن جميعا بجسارة الموقف والاختيار السياسي أو الفكري ، طالما أن قناعتها الشخصية انتهت إليه ، معظم الباقيات انتظمن في " ظل " الحكومة ، وتوسدن مناصب رسمية أو عشن في كنف " الدفء " الرسمي بصيغة من الصيغ ، إلا زينب ، نشطت في وقت مبكر مع هدى شعراوي ، ثم انفصلت بعد ذلك عندما لم تقتنع بأصالة وجدية توجهاتها ، وانتظمت في العمل النسوي من منظور إسلامي وأسست منظمة علنية نشطة للغاية اضطرت جماعة بحجم الإخوان المسلمين قبل الثورة إلى أن تلهث وراءها وتتمنى أن تنضم إليها وهي تمتنع حينا طويلا من الدهر ، ثم عندما وقع ظلم فادح على الجماعة وصدر قرار بحلها أعلنت أنها ستنضم إليها ، أي أنها هربت من الجماعة أيام المغانم والرخاء والقوة ، وانضمت أيام المحنة والمغرم والضعف ، يا له من نبل المناضل الإنسان ، وعندما هيمن الضباط الأحرار على الحكم عرض عليها العديد من المناصب وصولا إلى الوزارة ، وكانت مؤهلة بحكم الخبرة والتاريخ والكفاءة لتكون قطبا وقيادة نسائية كبيرة في العهد الجديد ، إلا أنها أبت وبدلا من " الوزارة " توجهت إلى " جذر المجتمع " وحاولت إحياء روح الهوية الإسلامية فيه من خلال العمل السري ، حتى اعتقلت مع الشهيد سيد قطب وعذبت على النحو البشع الذي حكته وحكاه غيرها في مذكرات السجن الحربي ، وظلت في السجن قرابة خمس سنوات حتى تم الإفراج عنها في أوائل حكم الرئيس السادات ، ورغم هذه الرحلة الصعبة والمعاناة ، إلا أنها خرجت من السجن لا لتعيش بجوار الحيط ، وإنما لتجوب البلاد والدول تنافح عن دينها ، وتشارك في المؤتمرات والندوات وتدعم المستضعفين والمحتاجين في كل مكان ، وتدعم ما تعتقد أنه طريق أنسب للدعوة والعمل الإسلامي ، حالة فذة من النساء المصريات ، لا تعرف المستحيل ، ولا تعرف اليأس ولا تعرف السهل ، ولا تعرف " دفء السلطة " ، وإنما تعرف النضال والعمل والمكابدة وجدية الموقف ودفع ثمنه أيضا ، ولذلك لم يكن غريبا أن تظل زينب الغزالي في التاريخ " الرسمي " للثقافة أو الفكر أو السياسة أو حتى الحركة النسائية المصرية هامشا غائبا ، قلما تذكر ، وقلما يشير إليها أحد ، ولو سلكت طريقا آخر غير الذي سلكت ، ولو لبست زيا آخر غير الذي لبست ، ولو كتبت كلاما آخر غير الذي كتبت ، لو فعلت ذلك لربما وضعوا لها تماثيل في الميادين العامة ، وفصولا في مناهج الطلاب الدراسية ، ولكن ، منذ متى كانت الكرامة للنبي في قومه ؟! يرحمها الله . [email protected]