إلى وقت قريب كنا نعتقد أن زمن الانقلابات العسكرية في الدول العربية قد ولى إلى غير رجعة مستندين في ذلك إلى نضوج مستوى الوعي السياسي وشيوع بعض مظاهر الدمقرطة في أكثر من قطر عربي عبر أشكال وصور مختلفة. غير أن الانقلاب الأخير في موريتانيا الذي قاده الجيش وأطاح بنظام الرئيس ولد الطايع أعاد إلى الأذهان سيرة الانقلابات العسكرية في المنطقة العربية وبعض دول العالم الثالث، وكشف عن حالة تخلف سياسي مزمنة تعتري بعض الأنظمة العربية سيما العسكرية منها التي تصر على ممارسة الاستبداد والتسلط وتتخذ من أجهزتها البوليسية وسيلة للقهر والإمعان في الفساد.مع قناعتنا برفض نهج الانقلابات وحكم العسكر أصلاً، إلا أن الحالة الموريتانية كانت صارخة في تفاصيلها حيث الأوضاع البائسة التي وصلت إليها البلاد من فساد مالي وإداري وتغييب للحريات ومصادرة الديمقراطية خلفت معها حالة من الإحباط واليأس بالتغيير السلمي الديمقراطي ما دفع إلى القيام بانقلاب عسكري أطاح برأس النظام. الشاهد أن التغيير القسري الذي حصل في نواكشوط أفرح الموريتانيين وجعلهم يخرجون إلى الشوارع معبرين عن ابتهاجهم بسقوط النظام أملاً في متغيرات تعيد صياغة الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية بعد فشل للنظام السابق خلال عقدين من الزمن وصلت خلالهما الأمور إلى طريق مسدود وصار لسان حال الموريتانيين يقول: «فاقد الشيء لا يعطيه». السؤال الذي يطرح نفسه في هذا الصدد: «ما هي ضمانات التغيير الديمقراطي والإصلاح وتطبيق العدالة كما طرحها الانقلابيون الجدد، وهل هناك برنامج واضح لإدارة الدولة داخلياً وخارجياً بنَفَسْ تحديثي بعيداً عن الشكلية والولاءات الخاصة وأمراض النظم الفاسدة. في الواقع تبدو إشكالية حكم العسكر والانقلابات في الحياة السياسية العربية مزعجة إلى حد كبير ومؤرقة لقوى التحديث والعصرنة لأنها ستبقى كابحاً أمام نمو مؤسسات المجتمع المدني، من خلال سعيها الدؤوب لعسكرة الحياة العامة وإبقاء الجيش هو المؤسسة المهيمنة في المجتمع الذي يحمي قوى الهيمنة والفساد ومرتكزات النظام. ما حصل في نواكشوط يطرح مخاوف مستقبلية من تكرار تجربة الانقلابات العسكرية في أكثر من دولة عربية تعيش في ظروف مشابهة، ويكشف في الوقت ذاته عن هشاشة التجارب الديمقراطية الوليدة التي ما زالت تحبو في واقع مليء بالمفاسد، فضلاً عن حالة الضعف والتهميش الذي تعيشه قوى المجتمع المدني من أحزاب ونقابات ومنظمات مجتمعية تضطر أحياناً للتحالف مع العسكر سعياً وراء تغيير بعض المجتمعات لأن الجيش للأسف ما زال يشكل المؤسسة الأقوى الممسك بمفاصل القوة والمال والإعلام. إن المأزق الذي تعيشه المنطقة العربية والذي يفرز مثل تلك الظواهر إنما يعود بشكل أساسي إلى غياب الديمقراطية وشيوع حالة من التسلط والقمع والفساد، الأمر الذي خلق حالة احتقان نتج عنها توترات ومشكلات اجتماعية وقلاقل سياسية، لذلك ستبقى إلى حين ظاهرة الانقلابات العسكرية والتغييرات الدموية للأنظمة السياسية غير الرشيدة، وسيظل التداول السلمي للسلطة في ظل منظومة ديمقراطية متكاملة حلماً يراود الشعوب العربية المغلوبة على أمرها. --- صحيفة البيان الاماراتية في 11 -8 -2005