في الحلقة السابقة تحدثت عن الفرق بين " السلطة المؤسسة " بكسر السين ، والسلطة المؤسسة " بفتح السين ، وذكرت أن القرآن الكريم والسنة النبوية أي الوحي هما المصدر الفكري الأساسي للسلطة المؤسسة " بفتح السين ، وذكرت مثلا آيات الحاكمية التي في سورة المائدة ، وأن قوله تعالي " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون "و " الظالمون " و" الفاسقون " ، وقوله تعالي " وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم " وقوله تعالي " أفحكم الجاهلية يبغون ، ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون " . وأشرت إلي الآية المحكمة في سورة النساء " إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلي أهلها ، وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ، إن الله نعما يعظكم به ، إن الله كان سميعاً بصيراً ، يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شئ فردوه إلي الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ً " . الوحي هو المصدر الإلهي الذي يعلو فوق الزمان والمكان والناس ، وهو كلمة ا لله إلي الناس ليتحاكموا إليها ، وهذا هو معني " الحاكمية " أي أن يكون المرد والمرجع حين يختلف الحاكم والمحكوم إلي الله والرسول ، وحين عملت فترة علي كلمة " حكم " وجدت أن لها معان كثيرة منها القضاء والفصل بين الناس ، ومنها القواعد التي تمنع الناس أن يجور بعضهم علي بعض ، فالعرب تقول " حكمة اللجام " أي الجديدة التي تحكم لجام الفرس فتمنعه من الانطلاق بلا ضابط ولا رابط ، ومن معاني الحكم ، الحكمة وحسن تقدير الأمور ووضعها في نصابها الصحيح ، ومن معانيها ، الإتقان والخبرة ، والحاكم هو الذي يفصل بين الناس حين يتنازعوا ، كما في قوله تعالي " فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها " . والحكم معناه العلم والتفقه ، والحكم من أسماء الله الحسني ، وحكمة الشئ علته وفلسفته ، والحكيم من أسماء الله الحسني ، والقرآن هو الذكر الحكيم لأنه الحاكم للناس وعليهم ، ولأنه محكم لا اختلاف فيه ولا اضطراب ، واختصم الخصمان إلي الحاكم أي رفع خصومتهما إليه . وحاكمه إلي الكتاب أي خاصمه ودعاه إلي حكمه . وحكم فلان في الشئ أي جعله حكماً ومنها قوله تعالي " فلا وربك لا يؤمنون حتي يحكموك فيما شجر بينهم " ، فمن معاني الحكم المهمة هي " المرجع والمرد إلي مايفصل النزاع والخصام بين المتنازعين " ، ومعني يحكموك في الآية أي يقبلوا أن تكون حكما يرد إليك وترفع النزاعات لك ، ثم تقضي ، ثم يقبلوا ماقضيت فهو شرع واجتهاد من النبي صلي الله عليه وسلم لا يمكن رده . ولذا " الحاكمية " هي من القواعد المقررة والقيم الظاهرة في القرآن الكريم ، لا تحتاج إلي كثير عناء من أولئك الذين يقولون إنها لم تك شيئا ً . وأن أول من قال بها هم أبو الأعلي المودودي " و " سيد قطب " ، بل هي ناطقة فاصلة واضحة لا لبس فيها ولا غموض كقيمة هي جزء من اعتقاد المسلم . فالحاكمية بمعني الرد إلي الله تعالي والرسول أو مانعبر عنه كباحثين في الفكر الإسلامي اليوم " بالمرجعية العليا " ، فكل مجتمع له مرجعيته العليا ، والتي يسميها علماء السياسة " السيادة " وعندنا في الإسلام السيادة العليا والسلطة المؤسسة ( بكسر السين ) هي لشرع الله قولة واحدة لا مراء فيها ولا مداهنة ، ومن وراء ذلك خطر عظيم ، نعوذ بالله منه . أما السلطة المؤسسة ( بفتح السين ) فهي التي تنظم المجتمع المسلم وفق مرجعيته العليا ، وهنا نقول إن هذه السلطة هي الهيئة الحاكمة المعبرة عن الأمة المسلمة والمفوضة منها لتقوم بممارسة الإدارة أو الحكم لتسيير النظام السياسي الإسلامي بما يحقق للمسلمين المجال الرحب لتحقيق عبوديتهم لله بممارسة الاستخلاف والإعمار في الكون والحياة . ويحكم العلاقة بين الهيئة الحاكمة " خليفة أو رئيس أو رئيس وزراء " ، علاقة عقدية يقف فيها الطرفان علي قدم المساواة لحظة البيعة أو التفويض ، وشروط العقد هي قيام الحاكم أو المسئول كل في موقعه بالوظائف التي تحقق للمسلمين الرفاهية والأمن والسعادة ، وتمنحهم الفضاء الذي يحققون فيها إسلامهم . ونحن هنا استخدمنا علاقة عقد ، واستخدمنا التفويض ويستخدم علماء السياسة الشرعية القدامي تعبير " الاختيار " ، وفكرة الاختيار مهمة جدا في الفكر الإسلامي ، فالخليفة أو الحاكم أيا كان اسمه لا بد أن يكون مختارا ً ، أي يختاره الناس لا أن يكون مستبدا متسلطا جاء عن طريق الانقلاب العسكري أو التوريث ، والإسلام ضد التوريث علي طول الخط ، والملك العضوض الذي جاءت به الدولة الأموية ليس تقليدا إسلاميا وكان فاتحة للاستبداد السياسي الذي حرم المسلمين من تطوير خبرتهم السياسية . النظام السياسي الإسلامي يرفض التوريث ، ويرفض الانقلاب العسكري بالقوة ويرفض الاستبداد بالحكم دون الناس أو مشاورتهم . وللحديث بقية [email protected]