مازالت العلاقات بين روسيا والناتو تراوح مكانها بين المد والجزر، فما يكاد يحدث تقارب بين الجانبين، حتى تعود التوترات من جديد لتخيم على هذه العلاقات، وفيما تتزايد الخلافات بشأن توسع الناتو شرقاً ليضم المزيد من الجمهوريات السوفيتية السابقة، فضلاً عن عدد آخر من القضايا المتعلقة بالحرب في العراق وأفغانستان، والموقف من البرنامج النووي الإيراني والقضية الفلسطينية، فإن هذا لم يمنع استمرار وتطور التعاون الأمني والعسكري بين الجانبين، والاستعداد لإجراء الجولة الثالثة من المناورات العسكرية المشتركة في سبتمبر القادم. التعاون الإستراتيجي بين روسيا والناتو بدأ عام 1997 بالتشاور حول عدد من القضايا الأمنية، وقد تزايدت مجالات التعاون بين الجانبين في أعقاب هجمات 11 سبتمبر، وإنشاء "مجلس حلف شمال الأطلسي وروسيا"، والذي استهدف تعميق التعاون بين روسيا وأعضاء الحلف في المجالات السياسية والأمنية، وخاصة ما يتعلق بمكافحة الإرهاب وإدارة الأزمات ومنع انتشار أسلحة الدمار الشامل وأنظمة الدفاع ضد الصواريخ المتوسطة المدى، ومراقبة التسلح، وشملت مجالات التعاون أيضاً تطورات الأوضاع في المناطق الساخنة، وخاصة العراق وأفغانستان، ومشكلة البرنامج النووي الإيراني. ومع ذلك فقد ظلت هناك العديد من المشكلات والخلافات تعترض طريق هذا التعاون وفى مقدمتها إصرار الناتو على زيادة وجوده العسكري في أراضي جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، وتشجيعه للثورات الملونة والاحتجاجات الشعبية الهائلة التي أدت بقوى المعارضة إلى سدة الحكم في عدد من الجمهوريات، مثل جورجيا وأوكرانيا وقيرغيزستان. لقد تدخل الناتو في يوغسلافيا السابقة، وقام بالعديد من الهجمات الجوية على البوسنة والهرسك وعلى كوسوفو خلال التسعينات دون استشارة روسيا أو حتى إخبارها بهذه العمليات قبل بدايتها. ومنذ عام 1999، حدث تطور هيكلي دخل البناء التنظيمي للناتو، أدى إلى تحوله من منظمة دفاعية إلى تحالف أوسع للأمن الجماعي، بما يعني توسيع مهامه لتشمل القيام بعمليات خارج الأراضي الأوربية، والعمل على توسيع العضوية فيه، لتضم دول شرق أوربا على وجه الخصوص، وفى مارس من العام 1999, انضمت بولندا والمجر وتشيك إلى الناتو، ليمتد خط دفاع الحلف إلى الحدود الروسية بأكثر من 800 كيلومتر، الأمر الذي جعل الجزء الشمالي الغربي من حدود روسيا مفتوحاً أمام القوة العسكرية للناتو. ومع بدء الحرب في أفغانستان، دخلت قوات الناتو إلى العاصمة كابول بعد الغزو الأمريكي لها، وأصبح يتمركز هناك نحو ألف جندي تابعين للحلف، فضلاً عن القواعد والتسهيلات العسكرية الأخرى في أوزباكستان وقيرغيزستان وطاجيكستان، وفي مارس 2004، ضم الناتو إلى عضويته كل من استونيا ولاتفيا وليتوانيا وبلغاريا ورومانيا وسلوفاكيا وسلوفينيا، وبذلك أصبحت قوات الناتو تحاصر روسيا، وصار بمقدور طائرات الاستطلاع التابعة له أن تقوم بنشاطات استطلاعية قرب الحدود الروسية في أي وقت من الأوقات، وأن تقوم بعمليات عسكرية، في إطار حربها ضد الإرهاب، دون أن تحتاج لتفويض من مجلس الأمن. روسيا لديها مخاوف شديدة من السعي المحموم من جانب عدد من الجمهوريات السوفيتية للانضمام إلى الناتو، وتعتبر ذلك تهديداً خطيراً لأمنها، وعلى رأس هذه الجمهوريات أوكرانيا وجورجيا، اللتان تتمتعان بأهمية إستراتيجية كبيرة بالنسبة لروسيا، بسبب موقعهما الجغرافي المتميز، ووجود نسبة كبيرة من السكان الروس بهما، فضلاً عن مرور جانب كبير من أنابيب النفط عبر أراضي الدولتين. وصرح وزير الدفاع الروسي "سيرجي إيفانوف" على هامش لقاء غير رسمي لوزراء دفاع الناتو بالعاصمة الألمانية برلين، أن "الانضمام للحلف الأطلسي حق لكل دولة ذات سيادة, لكنه سيعني أن علاقات روسيا بهذه الدول ستتغير، ليس فقط في مجال الدفاع والأمن". وتأمل أوكرانيا في بدء محادثات الالتحاق بالناتو العام الجاري, بينما تحاول جورجيا أن تصبح رسميا مرشحة للانضمام قبل نهايته، لكن العديد من دول الحلف مازالت ترى أن على الدولتين القيام بمزيد من الإصلاحات الديمقراطية قبل قبولهما كأعضاء في الناتو. الخلافات بين روسيا والناتو لا تقتصر فقط على مشكلة توسيع الحلف وضم الجمهوريات السوفيتية السابقة، ولكنها تمتد إلى عدد من القضايا مثل الحرب ضد الإرهاب، والتدخل الروسي في الشيشان، إضافة إلى الموقف من البرنامج النووي الإيراني، والحرب على العراق، والقضية الفلسطينية ومنظمة حماس، فضلاً عن استمرار التشكك الروسي في نوايا الناتو، وجديته في شراكته مع روسيا، التي باتت تشعر بالعديد من الإحباطات، لعدم إشراكها في القرارات الهامة، حتى ما يتعلق منها بالأعمال العسكرية للحلف في آسيا الوسطى والقوقاز، وهي المناطق تعتبرها روسيا مناطق نفوذ خاصة بها. ومع ذلك، فإن هذه الخلافات السياسية لم تحل دون تزايد التعاون بين الجانبين في المجالات العسكرية، وإجراء مناورات عسكرية مشتركة، حيث تم الاتفاق على إجراء الجولة الثالثة من هذه المناورات والخاصة بأنظمة الدفاع المضادة للصواريخ في موسكو في خريف العام الجاري. وكانت قد جرت الجولة الثانية من هذه المناورات تحت رعاية مجلس روسيا والناتو في مارس 2005 في قاعدة "دي بيل" الجوية في هولندا، فيما جرت الجولة الأولى قبل ذلك في كولورادو بالولايات المتحدة. وبالإضافة إلى هذه التدريبات المشتركة، فإن هناك تعاون عسكري وأمني واستخباراتي بين الجانبين في كل من أفغانستان والشيشان والعراق، فضلاً عن تبادل الزيارات والوفود العسكرية. روسيا التي تمكنت بصعوبة من إدراك حقيقة أنها لم تعد إمبراطورية عظمى، اضطرت للتعاون مع الناتو في المجالات الأمنية والعسكرية، على الرغم من تباين وجهات نظر الجانبين بشأن العديد من القضايا السياسية، وذلك من أجل حماية مصالحها الإستراتيجية وتفادي فرض العزلة عليها، بعدما تمكن الحلف بالفعل من استقطاب العديد دول شرق أوربا والجمهوريات السوفيتية السابقة إلى عضويته، وأصبحت قواته وقواعده العسكرية تحاصر روسيا، وتهددها بفقدان نفوذها القديم في هذه الجمهوريات المصدر : العصر