التفصيل الذى ذكرته فى مقالى السابق بشأن اتساع مفهوم الشريعة ليشمل العقائد والعبادات والأخلاق والمعاملات والقوانين وتأكيدى على أن هذا الاتساع يجعل المسؤولية الملقاة على عاتق المجتمع وقواه الفاعلة من الأئمة والدعاة والمربين أكبر من مهمة الدولة فى تطبيق الشريعة لا يعنى التقليل من شأن وجوب إصلاح المنظومة القانونية لتتماشى موادها مع أحكام الشريعة والتى تمثل عنواناً على استقلالنا وانخلاعنا من ربقة الاستعمار القانونى الذى جثم على مجتمعاتنا منذ أكثر من قرن من الزمان. ولكن المؤلم أن تطبيق الشريعة تحول إلى شعار يستخدم للمناكفة السياسية خاصة مع امتلاء الساحة بمتحدثين جدد باسم التيار الإسلامى ينتمون إلى ائتلافات وكيانات تم تشكيلها من رحم الثورة وكنت أود أن نترك مهمة إيضاح المقصود من الشريعة للعلماء والمفكرين لأن كثرة التصريحات المتشنجة حول تطبيق الشريعة أصبح يثير فزعاً حقيقياً لدى قطاعات كبيرة من الشعب التى لا يشك أحد فى ولائها لشريعتها ودينها ولكنها تخشى المجهول المخبوء خلف الشعار ومن هنا فدور الإسلاميين أن يحددوا أولاً المقصود من مناداتهم بتطبيق الشريعة تحديداً واضحاً ثم عليهم أن يبذلوا الجهد والعرق من أجل تعريف عموم الشعب والمثقفين والسياسيين بطبيعة الشريعة والمقصود من تطبيقها. كما يجب أن تتوقف التصريحات النارية غير المسؤولة من كثير من المحسوبين على التيار الإسلامى حول تطبيق الشريعة وكأن لسان حالهم يقول للشعب المصرى جئناكم بالذبح مع أن الشريعة فى حقيقتها رحمة كلها وعدل كلها، فمثل هذه التصريحات تزيد الأمور تأزماً ولا ننسى أن هذا الشعب يتعرض لعمليات غسيل مخ منذ عقود طويلة رسمت له صوراً مؤلمة ومفزعة عن تطبيق الشريعة وحاولت إقناعه بأن الشريعة مرحلة تاريخية وانتهت وفى المقابل فإن هناك قطاعات من الشعب لا تجادل فى وجوب تطبيق الشريعة ولكنها تخشى من تفسيرات واجتهادات بعض الإسلاميين - كما يقولون - ومحاولة فرضها عنوة وقسراً فكل هذه المخاوف لابد من تبديدها عبر حوارات معمقة بعيداً عن إثارة الإعلام ومناكفة السياسة فالشريعة قضية رابحة ولكن أخشى أن نخسرها بسبب سوء أداء المدافعين عنها. كما يجب على عموم الحركة الإسلامية أن تدرك أن المواطن المصرى مهموم فى المقام الأول بتأمين مورد رزقه والبحث عن لقمة العيش ولن يصبر طويلاً على مثل هذه المعارك النخبوية التى لا تحتل مكانة متقدمة فى قائمة أولوياته لأنه على يقين أنه لم يفارق الإسلام ولم يخرج عن إطار الشريعة لأنه ملتزم بأداء الفروض واجتناب النواهى وكان ينتظر من الثورة أن تعيد إليه حقوقه المسلوبة التى جعلته يعانى الفقر ويصادق الجوع ولكنه لم يشعر بأى تغيير حتى الآن والشيخ محمد الغزالى – رحمه الله – كان يؤكد أن رسالة الإسلام الروحية لا يمكن تحقيقها أو إقناع الناس بها إلا فى ظروف اجتماعية صالحة لا يعانى الفرد فيها من الحرمان والجوع فالوعظ – على حد رأيه – لا يكفى فى ظروف تنبت الفساد. ومستقبل الحركة الإسلامية فى مصر مرهون بما يقدمونه للناس من حلول واقعية لمشاكلهم الاقتصادية والاجتماعية والحياتية لا بما سيطرحونه من كلام وعبارات أو بما سيخوضونه من معارك نخبوية فإذا ما أراد الإسلاميون اليوم أن يجذبوا الناس إلى الشريعة فعليهم بسد جوعتهم وكفاية حاجتهم ولا يدعون الأيام تمر من بين أيديهم فى معارك وصراعات هم أكثر من سيتضررون منها لأن أى فشل لن ينسب إلا لهم فهم المسيطرون اليوم على زمام الحكم ومن هنا فإنهم يجب أن يكونوا على وعى تام بعدم الاستدراك إلى حيث يلقون حتفهم السياسى. كما أن قضية الشريعة تحتاج إلى بذل المزيد من الجهد فى دعوة الخلائق وإعادة الاعتبار إلى منظومة القيم التى تكاد تكون قد انهارت فى حياة المصريين مما ترتب عليه تفشى تعاطى المخدرات بكل أشكالها وشيوع الرشوة والمحسوبية وازدراء قيمة العمل إلى آخر الأمراض الأخلاقية التى يعانى منها المجتمع المصرى ولا تخفى على أحد وتسببت فى انتكاسات مجتمعية خطيرة وعلاجها لن يكون بصياغة الدستور بقدر ما سيتوقف على جهد الدعاة والمربين الذين بوسعهم أن يجعلوا الشريعة واقعاً مطبقاً وملموساً قبل أن تكون وثيقة مكتوبة. [email protected]