الحديث الملتهب الآن حول تطبيق الشريعة الإسلامية، وحالة الغضب العارمة التى تنتاب قطاعات عريضة من الإسلاميين، والتى أدت إلى الدعوة لمليونية جديدة انعكس أثرها على رجل الشارع العادى، الذى يتساءل بصدق وإخلاص: ما المقصود بتطبيق الشريعة الإسلامية؟، وما الجديد الذى سيحدث فى حياتنا كمسلمين حال تطبيق الشريعة الإسلامية؟، إلى آخر هذه الأسئلة وهذه الاستفسارات أراها مشروعة تمامًا ومن حق المواطن البسيط أن يلم بها لأننا للأسف الشديد حولنا قضية الشريعة وتحقيقها فى حياتنا إلى قضية "نخبوية" نناكف بها الليبراليين واليساريين دون أن نبحث عن عمق لنا فى أوساط الشعب المصرى الضامن الحقيقى لهوية هذا البلد والحافظ لها بتمسكه بإسلامه وبتعاليم دينه رغم ما مورس عليه من قصف شديد الوطأة من أجل إخراج الإسلام من مجاله العام والخاص، ولكنها محاولات باءت بالفشل الشديد لأن المواطن المصرى الذى تراه أمامك كل يوم مهمومًا من أعباء الحياة وتكاليفها الشاقة اختار أن يعيش بالإسلام وفى ظله مهما حدث له من انتكاسات أخلاقية؛ لأنه سرعان ما يتعافى منها ويعود إلى رشده وإلى جادة الصواب مرة أخرى. كما أن مفهوم الشريعة نفسه يحتاج إلى مزيد إيضاح وتبيين؛ لأنه للأسف الشديد تم اختزاله فى أوساط كثير من الإسلاميين فى القوانين وفقط وتحديدًا فى باب الحدود، مهما حاول البعض أن ينفى ذلك عن نفسه فالممارسة العملية تؤكد ذلك؛ لأن الشريعة أرحب وأوسع من النظام القانونى، وإذا ما تتبعنا معانيها المختلفة لاكتشفنا حقيقة مذهلة وهى أن تطبيقها يقع فى شقه الأكبر على عاتق المجتمع بقواه الحية الفاعلة من الأئمة والدعاة والمصلحين والمربين وليس الدولة - كما يظن كثيرون-، وبما أن المقام لا يسع سرد التعريفات الكثيرة فسأكتفى هنا بتعريف القطب السلفى المعروف د. ياسر برهامى، والذى يعرف الشريعة بقوله: "والمقصود من الشريعة الإسلامية هو: القيام لله -تعالى- بمقامات الإسلام، والإيمان، والإحسان، التى بينها النبى -صلى الله عليه وسلم- فى حديث جبريل -عليه السلام- الطويل، وكذلك أنظمة الحياة الإسلامية فى السياسة، والاقتصاد، والقضاء والحدود، والحرب والسلم، ونظام الأسرة، والنظام الاجتماعى، والتكافل، والإعلام، والحسبة، وغيرها من فروض الكفاية، مع بيان أن الشريعة الإسلامية لا تقتصر على مجرد الحدود أو العبادات، بل هى منهج ربانى شامل لجميع جوانب الحياة مِن العقيدة، والعبادات، والسلوك والأخلاق، والمعاملات" (راجع موقع صوت السلف). فبحسب تعريف د. برهامى – وهو تعريف لا يختلف عن تعريف بقية العلماء – فإن الشريعة تشمل العقائد والعبادات والأخلاقيات والمعاملات، كما أنها تشمل النظام العام للدولة، وإذا ما استثنينا الأخيرة مؤقتًا فإن تطبيق كل مفردات الشريعة الأخرى هى مهمة لصيقة بالعلماء والدعاة المنوط بهم تصحيح عقائد الناس ومحاربة البدع والضلالات ونشر منظومة الأخلاق الرشيدة وإصلاح ما تهدم منها والعمل على نشر الفضائل ومحاربة الرذائل، وحث الناس على الصلاة والزكاة والصيام والحج لمن استطاع.. إلخ، وبعبارة أخرى فالمجتمع نفسه هو الساحة الفعلية لتطبيق الشريعة وتحقيق وجودها فى حياتنا ومعاشنا. وقبل ثورة يناير كان الدعاة وعموم الحركة الإسلامية تشكو بصدق من التضييق عليها فى ممارسة حقها فى دعوة الخلائق، فما الذى يمنعها الآن من ملء البلاد دعوة وتربية وتزكية وإصلاحًا وتهذيبًا وجذبًا لعموم الخلق إلى الخالق سبحانه وتعالى؟!!، أليس هذا تطبيقًا للشريعة الإسلامية فى تعريفها الواسع الشامل؟!!. نأتى إلى موطن النزاع والخلاف وهو منطقة القوانين والتشريعات، فمما يجب أن يعرف هنا أن الشارع الحكيم سبحانه وتعالى قد ترك مساحات ليست بالقليلة للبشر يشرعون فيها أسماها البعض منطقة "العفو"، وأسماه آخرون منطقة "الفراغ التشريعى"، ولا مشاحة فى الاصطلاحات، المهم نحن أمام منطقة يجوز للبشر أن يشرعوا فيها تبعًَا لتغير ظروف الزمان والمكان شريطة ألا يخالفوا أصلاً من أصول الدين المجمع عليها، فنحن البشر نتوافق فيما بيننا على قوانين التعليم والمرور والصحة ومباشرة الحقوق السياسية.. إلخ، أما ما يحتاج إلى إصلاح فعلاً فليس بالكثير كما يظن البعض، وفى هذا يقول العلامة د. القرضاوى: (القوانين الوضعية تتفق فى كثير من الأحوال مع الشريعة الإسلامية ولكن أبرز ما تخالف فيه الشريعة الإسلامية القوانين الوضعية القانون الجنائى، التشريع الجنائى أو الجزائى أو العقابى الذى يعنى يتضمن الحدود والقصاص)، أ.ه إضافة إلى بعض مواد القانون المدنى وخاصة ما يتعلق بالربا. ما أريد أن أقوله هنا: إن شعار "تطبيق الشريعة" يحتاج إلى مزيد من التمحيص والتحديد والمناقشة؛ حتى نعرف على وجه الدقة والتحديد واجبنا كمجتمع تجاه تطبيق الشريعة، وواجب الدولة تجاهها، ولا نترك رجل الشارع نهبًا للقلق والحيرة. [email protected]