تخيم على الأجواء السياسية في مصر الآن قضية تطبيق الشريعة ولا شك أنها قضية دقيقة وحساسة بعد أن طال الأمد بين واقع الناس وبين أن تكون الشريعة واقعًا في حياتهم منذ سقوط الخلافة غير أن ما يلاحظ هو بساطة تلقي الناس لمفهوم تطبيق الشريعة بساطة تنال من عمق القضية ذاتها. لا شك إن تطبيق الشريعة وإحلال أحكامها في الحياة إحلالًا تتحقق به مقاصد الشارع الحكيم ليس عملًا بسيطًا ولا حركة آلية؛ بل هو عملية مركبة تتوقف على اجتهاد خاص ودقيق هو الذي اصطلح عليه في تراثنا بتحقيق المناط وفقه الواقع والنظر في المآل. بيد أن هذا الاجتهاد لم ينل حقه من الرعاية في عصرنا ويحتاج إحياؤه إلى مراجعة وبحث: يحتاج إلى مراجعة لبرامج التعليم الديني بما يجعل خريجيه من العلماء مستوعبين لآليات هذا الاجتهاد وقادرين على تفعيله والمشاركة فيه على نحو ما كان عليه سلف الأمة من العلماء. ويحتاج هذا الاجتهاد أيضًا إلى التجرد للبحث العلمي؛ الذي يهيئ الصروح العلمية كمجمع الفقه الإسلامي وكبار هيئة علماء الأزهر وأقسام الشريعة في جامعة الأزهر ودار العلوم أن تقعد وتؤصل للاجتهاد بتحقيق المناط وفقه الواقع والتوقع معالجته والتدقيق فيه؛ تأصيلاً لهذا النوع من الاجتهاد وتفعيلاً لمقتضياته. أما التأصيل؛ فلا شك أنه من القرآن و"تصرفات" الرسول صلى الله عليه وسلم وسوابق الخلفاء الراشدين وتراث الفقهاء الراسخين؛ لكنه يتوخى ضبط مفاهيمه، وتحديد آلياته وقواعده وكيفياته ومسالكه، وكشف المنهج الشرعي الحكيم في فهم الدين وتطبيقه، ابتغاء إخراج هذا الوعي من الضيق إلى السعة، ومن النظر الجزئي المفكك إلى النظر الكلي الجامع، ومن الانفراط والاضطراب إلى الانضباط والاطراد، ومن التردد إلى الاطمئنان، وابتغاء تضييق شقة الخلاف بين العلماء، و- من ثم- تصحيح التدين العام للأمة وتدين أفرادها. أما تفعيل الاجتهاد بتحقيق المناط فيقصد به إعماله في قضايا تحظى بالأولوية في واقع الأمة وتمس مجالات ذات أهمية في حياتها بدءًا بتصور تلك القضايا تصورًا دقيقًا من قبل العلماء والخبراء ووصولاً إلى صياغة أحكام مناسبة وتجديد المفاهيم المرتبطة بها في ضوء ذلك وفي ضوء الكليات الشرعية والمقاصد والمآلات والتحولات؛ تأويلًا للنصوص الشرعية على نحو صحيح وترجيحًا لما ناسب من آراء الفقهاء. وبهذا يصير كما يقول شيخنا العلامة عبد الله بين بيه "الاجتهاد بتحقيق المناط مسلكًا لمراجعة حال الأمة والخروج بها من أزمتها باعتباره اجتهادًا يراجع الجزئيات على ضوء الكليات منسجمًا مع أنواع الاجتهاد الأخرى ومستوعبًا غير المجتهدين من كفاءات الأمة وأهل الخبرة فيها ولا شك أن إحياء هذا الاجتهاد الشرعي إنما يثمر تلك النتائج الطيبة عندما يكون البحث العلمي المأمول متخلقًا بما يلزم من الجدية والأصالة والموضوعية، متحررًا من قيد الأفكار المسبقة ومن خلفية النتائج المقررة سلفًا، متنزهًا عن التحيز إلى اتجاه فكري أو مذهب فقهي أو موقف سياسي.