لم تكن الإضرابات العمالية, التى تصاعدت حدتها بمختلف أشكالها حتى شملت جميع القطاعات والعاملين بالدولة كالمعلمين وأساتذة الجامعات والأطباء والصيادلة والمهندسين وموظفى الأوقاف وعمال الغزل والنسيج فى المحلة والصحفيين والمراقبين الجويين وعمال النقل العام وغيرهم عقب قيام ثورة الخامس والعشرين من يناير عام 2011 هى الأولى من نوعها على مر التاريخ, بل امتد تاريخ الإضرابات العمالية فى مصر منذ حكم رمسيس الأول فى العصر القديم، حيث كان أول إضراب فى عام 934 قبل الميلاد وذلك للمطالبة بدفع مرتباتهم, وفى العصر الحديث كان إضراب لفافى السجائر عام 1899 هو أول الإضرابات فى مصر، والذى اعتبره المؤرخون أول إضراب للطبقة العاملة وميلاد للحركة العمالية فى مصر. كما تعتبر المظاهرات العمالية هى الشرارة الأولى لقيام ثورة 25 يناير, حيث تخلى العمال عن صمتهم ورفعوا رايات مطالبهم للحصول على حقوقهم المشروعة, وهو ما انعكس بعد ذلك فى أعنف موجة احتجاجات عمالية عبر التاريخ تشهدها مصر مع قيام الثورة, مما يؤكد حجم المعاناة والمأساة التى عاشها عمال مصر على مدار الثلاثين عامًا الماضية. ورغم قيام الحكومات المتعاقبة بعد ثورة يناير بالاستجابة لجزء من طلباتهم الخاصة بالتعيين والترقى وتحسين مستوى الأجور لتناسب الارتفاع الكبير فى المستوى العام للأسعار, لكنها حتى الآن لا تتناسب مع حجم الأمل الذى منحتها لهم أهم الشعارات التى قامت من أجلها الثورة وهى عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية, وهو ما جعلها تتكرر بشكل مكثف فلم يعد يمر يوم إلا ويكون هناك إضراب أكثر فى أحد القطاعات التى تمس المواطن وأمنه واستقراره وحياته، وكأنها تتحدى مسئولى الحكومة الذين يحاولون لملمة خسائرها، التى أكد عدد من الخبراء الاقتصاديين أنها وصلت إلى 300 مليون دولار يوميًا، فيما تراجع معدل النمو حتى وصل إلى معدل ناقص4.3 فى المائة، وأدى هذا إلى لجوء مصر إلى الاقتراض الخارجى، الذى وصل إلى 92 فى المائة من الناتج المحلى الإجمالى الذى بلغ 1366 مليار جنيه. وكان إضراب الأطباء المصريين الجزئى الذى بدأ فى الأول من أكتوبر 2012 هو الأخطر من نوعه, لأنه يتعلق بحياة مرضى ليس لهم أى ذنب, ورغم أن مطالبهم تركزت معظمها على مطالب عامة تخص النهوض بالقطاع الصحى فى مصر، ومنها المطالبة بزيادة ميزانية القطاع الصحى بنحو 15%، وتحسين ظروف العمل، وتوفير مزيد من الحماية للمستشفيات التى تتعرض لهجمات متكررة، بالإضافة إلى رفع أجورهم إلا أن المراقبين اعتبروه "تحديًا جديدًا وخطيرًا للرئيس محمد مرسى"، الذى يحمل على عاتقه تركة مثقلة بالهموم والمشاكل، وخاصة القطاع الطبى الذى عانى لسنوات طويلة من الإهمال والفساد. والأمر الغائب عن الأذهان هو أن عجز الموازنة العامة المصرية لا يسمح بالاستجابة للمطالب العمالية بزيادة الأجور؛ لأن ذلك سيؤدى إلى ارتفاع الديْن العام, وأن التكلفة الاقتصادية للإضرابات فى النهاية سوف يدفعها المواطن، لأن كثرة الإضرابات تعنى تراجع الإنتاج وانخفاض التنافسية، وبالتالى فالمستثمر لن يتحمل هذه التكلفة وسيذهب لمكان آخر، أو قد يلجأ إلى العمالة الأجنبية. المشكلة إذن تحتاج إلى بعض التفكير العقلانى المبنى على أسس علمية، وأن تتبع الحكومة سياسة جديدة للتعامل مع تلك الإضرابات والاحتجاجات يتم فيها فتح قنوات للتعبير والحوار، ومد جسور بين السلطة والمجتمع، حتى يكون مسئولو الحكومة على دراية كاملة بكل مايحدث على أرض الواقع، ويتم احتواء المشاكل قبل أن تزداد تعقيدًا ويصعب إيجاد حلول مناسبة لها، مع وضع خطة زمنية محددة لتحقيق مطالبهم يتم الاتفاق عليها مع مسئولى النقابات العمالية والحكومة.