أعتقد أنه من الضروري أن نتفق على أن النظام المصري ، لا يتودد إلى الأقباط حبا فيهم و لا يقسوا على المسلمين كراهية فيهم ، و إنما هو موقف نفعي استغلالي رخيص ، فرضه عليه ظرف تاريخي ، رأى فيه أن من مصلحته الآن عدم اغضاب واشنطن و تحري رضاها ، إذ مال و انحاز للطرف المصري الذي بات في الوقت الراهن تحت مظلة "الحماية الأمريكية" ، و قمع الطرف المصري الآخر الذي تقمعه و تقاتله في ذات الوقت الإدارة الأمريكية في كل مكان من العالم . بمعنى أن علاقة النظام بعنصري الأمة في مصر ، لا تخضع لأية معايير تقتضيها المصلحة الوطنية المصرية ، و إنما تميل و تتبدل و تستقر و تتغير وفقا للهوى و المزاج و المصالح الأمريكية في المنطقة . و لذا فإنه من الحمق أن يراهن الأقباط على النظام الحالي رهانا أبديا ، و التصرف بإفتعال الأزمات دون أية اعتبارات لحساسية التركيبة الطائفية و أوزانها النسبية في المجتمع المصري . و هو مالفت انتباه الكثير من المراقبين في أكثر من محك ، عندما عمدت الكنيسة إلى فرض إرادتها على النظام متجاهلة مشاعر محيطها الإسلامي الواسع و الكبير ، الذي لا يمكن التنبؤ برد فعله عند نقطة استفزاز "معينة" ربما تكون أكبر من قدرته على كظم غيظه . و هو السلوك الذي انتقده المفكر القبطي المعروف جمال أسعد ، عندما نبه البابا شنودة إلى خطورة صنيعه في أزمة وفاء قسطنطين ، عندما وضع النظام أمام خيارين بالغي الصعوبة : إما النزول عند رغبة الكنيسة و تسليمها سيدة مسلمة ، متجاهلا الأغلبية المسلمة التي يستفزها مثل هذه الإهانة و شعورها بالعجز في حماية من جاءتها فارة بدينها و إما عليه أن يتحمل مسئولية رفضه و تعنته أمام واشنطن التي ستستغل "شكوى البابا" لا لمصلحة الكنيسة بالطبع و إنما لمصالح و أجندات أخرى لا علاقة لها بالمصلحة الوطنية المصرية . أعيد و أكرر أنه سيكون من الحمق الرهان الأبدي على نظام سياسي هذا هو حاله ، خاصة و أن ثمة تحولات مهمة و حقيقية بدأت تعتري الرؤية الأمريكية للتغيير في المنطقة ، أبرزها أن المشكلة لم تعد مثل ما كانت عليه قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر ، فبعد أن كانت الإدارة الأمريكية تراهن على "النظام" و العمل على أن يظل تحت السيطرة دائما من خلال اغداق المساعدات عليه و حمايته من القلاقل الداخلية أحيانا و في أحيان أخرى بالضغط عليه و ابتزازه فيما كانت ورقة الأقباط إحدى أهم أوراق الضعط هذه التي أجادت واشنطن توظيفها جيدا لمصالحها ، و إطلاق يده في قمع الإسلاميين على أساس أنهم "العدو المشترك" للنظام و للأمريكيين في آن. لقد تبدل الحال و باتت الأنظمة القمعية الديكتاتورية هي المشكلة ، و باتت هي المتهمة بصناعة الإرهاب لقمعها شعوبها و تصديره للدول الديمقراطية ، و أعربت الولاياتالمتحدة و الدول الغربية الأخرى عن رغبتها في إجراء حوار مع الإسلاميين ، و لم يعد عند الإدارة الأمريكية و العواصمالغربية أية تحفظات في وصول الإسلاميين للسلطة طالما جاءوا عبر صناديق الاقتراع . أهمية الملف الطائفي و أولويته تراجع كثيرا عند صانع القرار الأمريكي ، و حل محله ملف الديمقراطية و الإصلاح في العالم العربي ، و تراجع معه الرهان الأمريكي على الأنظمة العربية القائمة ، و من ثم فإن من يتعلق بها من طوائف و قوى سياسية سيخسر كثيرا و سيذهب ريحه آجلا أم عاجلا . ولذا فإنه من الواقعية السياسية أن يتعظ الأقباط المصريون من هذه التحولات ، إذ ليس من مصلحتهم الأن الرهان على نظام قمعي لم يكن له يوما ما مشروع آخر غير مشروع قمع الإسلاميين و هزيمتهم ، و لن تجدي نفعا معه اليوم أية محاولة لابتزاه مجددا ، إذ إنه يدرك تماما أن الأمور تغيرت و تبدلت و لم يعد يخيفه "الملف القبطي" بقدر ما يسببه له من ذعر و رعب ملف "الإصلاح والديمقراطية" ، و من ثم فإن "الهم القبطي" الحقيقي هو ذاته "الهم الإسلامي" الذي يتلخص في ضرورة العمل معا من أجل ارساء نظام سياسي ديمقراطي يحترم المصري ل"مصريته" و حسب ، لا ويهينه أو يحترمه وفقا لرضى الأمريكيين أو سخطهم عليه . [email protected]