في تاريخ الأمم والشعوب لحظات فارقة تتلاشي فيها عناصر من ثقافتها الموروثة وتولد عناصر أخري ، وذلك عائد إلي كون الثقافة أسلوب حياة بالدرجة الأولي . وما من شك في أن امرءاً أيا كانت درجة تمسكه بأفكاره ومعتقداته لابد مراجع لها وقت أن تبرهن له التجربة الحية أن ذلك التمسك سيقوده حتما للهلاك أو الخَسار. خذ مثلا موظفا ظل يعتقد طيلة حياته أن النساء توابع للرجال، هل تراه يستقيل من عمله (يشحت علي عياله ) لو رقيت زميلة ٌ وصارت له رئيسا؟ بالنفي ثلاثاً أجابت ثقافة ستينات القرن الماضي من خلال شادية وشفيق نور الدين في الفيلم البديع " مراتي مدير عام " حيث اضطر وكيل الإدارة لتغيير معتقده " المذهبي الحنفي " مواءمة منه لمقتضي الحال. والأمثلة السوسيولوجية بعد هذا وقبله أكثر من أن تحصي ، فتاريخ الكائن البشري هو تاريخ تغيير الأفكار والعقائد والأديان والمذاهب والملل والنحل...الخ، باعتبار الزبد ذاهبا ً جفاء ً والنافع للناس هو ما يمكث في الأرض. غراب البين من جنوب السودان إلي الإسكندرية يعلم القاصي والداني أن كارثة انفصال الجنوب السوداني عن دولته الأم هي النتيجة المنطقية للسياسة الحمقاء التي بدأها الجنرال "الانقلابي" عبود، وأكملها جعفر نميري تلك السياسة التي تمثلت في فرض الشريعة الإسلامية علي كل السودانيين شمالييهم العرب المسلمين وجنوبييهم الأفارقة المسيحيين، وما ترتب علي ذلك من معاملة مسيحيي الجنوب كمواطنين من الدرجة الثانية .. فلا خدمات تعليمية وصحية ولا توظيف ولا حتي طرق ممهدة تربط بين مدنهم وقراهم البائسة التي تموت جوعا وبين الشمال المهيمن النهم المريض بالتخمة، فكان حصاد هذه السياسة الفظة اشتعال حرب أهلية دمرت السودان جميعا وأنزلته أسوأ منزلة بين الأمم ، ومازالت تلك الحرب مشمرة عن ساقها إلي أن توقفت ( ولا نقول انتهت ) بالاتفاق علي مبدأ التقسيم بين الشمال والجنوب ، وهو مبدأ خطير جداً لأنه مرشح للتطبيق مجدداً في إقليم دارفور وشرق السودان! بهذا المبدأ أيضاً أيقن غراب البين أن الخراب الكامل الشامل قابل للتكرار، فاندفع يحلق منتشياً بأجنحته اللهبية، مسافرا من الجنوب إلي أعلي مدينة بخط النهر"الخالد" ( الإسكندرية ) ناعقا ً فيها نعيقه مناديا ُمصر " المحروسة" : إلي إلي فقد حان دورك. فهاهو نفس السيناريو يعاد إنتاجه : اغتيالات أقباط يتلوها تفجير كنائس، قتلي بالعشرات وجرحي بالمئات،آلاف الرسائل الإلكترونية إلي الخلايا النائمة ملحق بها طرق صنع المتفجرات مشروحة بالصور. وكل هذا يجري بنداءات مكذوبة تزأر: وا إسلاماه ، وكأن أقباط مصر مغول وتتار جاءوا من شمال قارة آسيا مهاجمين البلاد ليدمروها تدميرا! وكأن الإرهابي قاتل الودعاء المصلين في يوم عيدهم هو الملك المظفر السلطان سيف الدين قطز! رأس الأفعي تحت المقصلة وقعت الواقعة إذن، ولكن بدلا من انفجار حمامات الدم بين الأقباط والمسلمين كما توقعت قوي الشر؛ امتزجت دماء المصلين الأقباط بسيدي بشر في كنيسة القديسين السكندرية بدماء أخواتهم المسلمين الذين حضروا القداس مهنئين مستبشرين. فإذا بغمامات التضليل تنخلع فجأة عن عيون المصريين جميعا، وإذا بالدولة والشعب يهبان معاً هبة رجل واحد يمحو آية الموت مستمسكا بآية الحياة المبصرة. وكأن هذا الرجل الواحد قد تكاثر جموعا تدفقت من كل حدب وصوب نحو الكنيسة الجريحة تعالج الجرحي وتجهز جثامين الشهداء للدفن، وما كان مدفنها غير قلوب المواطنين مسلمين قبل أقباط.وإذا بعشرات ألوف المسلمين تعلن نيتها حضور احتفالات السابع من يناير رافعين أعظم شعار سمعت به الدنيا : نعيش معاً أو نموت معاً. وبالتوازي جاء إعلان الرئيس مبارك أن الوحدة الوطنية وحماية الدولة المدنية هي مسئوليته الكبري في هذه المرحلة التي بات واضحا فيها أن قوي الإرهاب العالمي تستهدف تدمير مصر بمسلميها ومسيحييها؛ مؤكداً أن مصر لن تنام قبل أن تقطع رأس الأفعي، وليس فقط ذيولها، ويا له من تأكيد لا تخفي عن أحد دلالته. فهل ثمة شك في أن هذا الإعلان الحاسم من جانب رئيس الجمهورية قد حفز مثقفي الوطن للتحرك لمساعدة النظام أن يعود إلي طبيعة الدولة المدنية (الحقة) بتخليصها مما تورطت فيه حين أدرجت نصاً في دستور1971 يحدد للدولة ديناً معيناً؟ وهل من شك في أن الظرف التاريخي الحالي قد نضج بما يسمح للمثقفين أن يؤسسوا لدي أهاليهم ومعارفهم وجيرانهم (المستعدين للإنصات الآن) مفاهيم الثقافة الحديثة، ومن بينها ضرورة فصل الدين عن الدولة ارتكازًا علي حقيقة كون الدولة شخصية اعتبارية مختلفة بالنوع عن الأشخاص الطبيعيين الذين هم محاسبون يوم القيامة تبعاً لأديانهم التي اختاروها لأنفسهم، بينما الشخصيات الاعتبارية كالمؤسسات والشركات والبنوك والدول لا تبعث بعد موتها، ومن ثم لا تحاسب أمام الله ليدخلها جنته أو يصليها بناره، إنما تُسأل في هذه الدنيا (حسبُ) أمام القضاء والبرلمان وجهاز المحاسبات. ومن ثم فلا معني للنص علي أن للدولة دينا رسميا كما هو مثبت عندنا في المادة الثانية من الدستور الحالي. لقد أفاد الإرهاب -وهو بلا دين طبعاً- من هذا النص المحجم لمدنية الدولة، فكان أن : 1-تسلل به إلي بيوتِ (أذن الله أن تُرفع وأن يذكر فيها اسمه) فأحال معظمها لمنابر فتنة تفرق بين من جمعهم الله والتاريخ أخوة متحابين في وطن واحد. 2- اخترق به بعض جدران القضاء الشامخ من خلال ثغرات إنسانية وسياسية معينة، حتي أننا رأينا من يحكم -خلافاً للقانون- بجلد متهم كما لو كنا في القرون الوسطي! 3- عاث به في المدارس يحرض فيها بعض المعلمين تلاميذهم المسلمين علي كراهية أخواتهم الأقباط. 4- امتطي به الغوغاء الملقنين شعار"عدوك عدو دينك" ، ذلك الشعار الذي يغطرش علي عدو الجميع مغتصب أراضينا، مشرد شعوبنا وساحق أسرانا - أحياءًَ- بدباباته، العدو الذي ما زال يتجسس علينا رغم أننا "صالحناه" واعترفنا به دولة جارة وعقدنا معه معاهدة للسلام، وما انفك هو يخطط لسرقة نيلنا وتقسيم بلادنا وتجويع أطفالنا (مسلمين ومسيحيين) موظفاً في ذلك عميله "الإرهاب" المتحجج بنص"دستوري" ملتبس، يغشنا به ثم يقتلنا. المعلوم عن الدين والمطلوب من الدستور جاء أبرص يناشد يسوع المسيح أن يشمله بما وهبه الله من قدرة علي شفاء المرضي، فاستجاب له دون تردد، بيد أن قوم يسوع اليهود انتقدوه لانشغاله بهذا العمل " الدنيوي" عن الصلاة المخصص لها يوم السبت كما ورد عندهم في الشريعة! فما كان من المسيح -عليه السلام - إلا أن صاح فيهم : يا أولاد الأفاعي خُلق السبت للإنسان ، ولم يخلق الإنسانُ للسبت . فكان هذا القول درسا لكل التافهين ضيقي الأفق من عُبّاد النصوص. ولعل المسلم المستنير أن يتدبر هذا المعني شديد اللطف، حين يطالع الآية الكريمة " طه . ما أنزلنا عليك القرآن لتشقي"، إذ لولا تفهم المسلمين لغرض الآية لظلوا حتي الآن متمسكين بامتلاك العبيد والجواري ( ما دام النص لم يحرم ذلك) ولكان عليهم أن يذوقوا الشقاء ضعفين وهم يقضّون أعمارهم في حروب عالمية يشنها عليهم أبناء وأحفاد لنكولن محرر العبيد . والمغزي أن " النص" حتي لو كان مقدسا إنما هو مخصص لسعادة البشر لا لتعاستهم ، وذلك أولي بالوصف أنه المعلوم عن الدين بالضرورة، فما بالك بنصوص وضعها البشر وضمنوها مواثيقهم .. أتظل أمثال هذه النصوص غير قابلة للفحص والمراجعة والتعديل والتغيير مهما يتبين للناس قدر الأذي الناجم عن بقائها واستمرارها؟ في هذا السياق ينبغي النظر إلي المادة الثانية من الدستور لنسأل هل تؤدي بنا إلي السعادة أم إلي الشقاء؟ هل تقودنا إلي سلام اجتماعي مثمر منتج؟ أم تلقي بنا في أتون حرب أهلية مهلكة للجميع؟ هل تحمي وحدتنا الوطنية أم تسير بنا إلي جرف هاوٍ ننقسم فيه إلي دويلات ضريرة بكماء محطمة الضلوع ممزقة الأشلاء؟ كفانا إذن المعلوم بالضرورة: أن الشعب المصري تعبدُ غالبيته وأقليته الله علي ديني محمد وعيسي عليهما السلام، ولنمحُ- قادرين- تلك النافلة "النصية" التي تصور الدولة في هيئة بوابة مفتوحة للإرهاب.