يقف العالم مشدودا أمام حزم مكثفة من إعلام رقمي فائق التقنية, وإعلان مبهر تتعاظم معه طموحات بشر يتطلع إلي الاستهلاك, وأناس يشعرون بتوحش وخوف أمام تقنيات معاصرة تبدل من أحوالهم, و تغير من منظومة حياتهم, و تطمس معايير أخلاقياتهم; بسبب تحديات كبري بشرية وتكنولوجية متشابكة العوامل و معقدة لا تجد الحلول لديه. إن التدفق المعلوماتي العابر للحدود دون رقابة أو حواجز يطرح تساؤلات عدة حول قضايا تقف علي قمتها مسألة الانتماء و الولاء والمواطنة والسيادة الوطنية والقيم الأخلاقية, كما يثير إشكاليات تتعلق بدور الدولة و مكانتها في المجتمع,وموقف النخب السياسية والثقافية من قضايا عالمية ومحلية تحتاج إلي مراجعات جادة ومواقف وطنية ملتزمة حتي لا تصبح تلك الشعوب في موقف المتفرج أو تجد مكانها خارج التاريخ أو علي هامشه. رغم إيجابيات المرحلة المعاصرة والتطورات التكنولوجية غير المسبوقة في مجال الإعلام الرقمي, فإن الخطر الأكبر يبدو ماثلا في تباين استخدام البشر لتلك الوسائل, واختلاف خصائصهم و ثقافاتهم, وكذا مواقفهم وردود أفعالهم في مواجهة التحديات المتشابكة, ودرجة الاستفادة الحقيقية من تلك التقنية الإعلامية المعاصرة, حيث تتحدد درجة الوعي المجتمعي و الإدراك الجماهيري في التعامل مع الشبكات الإلكترونية الحديثة تبعا لدرجة التقدم العلمي والتحضر الثقافي الذي وصل إليه المجتمع. فإن ذلك التقدم وملامح تحضره يمثلان صمام الأمن القومي للدول و الأمان الوطني للشعوب. فالخوف كل الخوف يأتي حين يفقد الإنسان ملكة النقد الموضوعي وخاصية القدرة علي التحقق من المعلومات الطيارة المفروضة عليه أو المبهرة للبعض, حينئذ يضعف لدي المستهلك أو المتعامل مع تلك المعلومات جهازه المناعي القابع بداخله, فتختفي لديه ميكانزمات دفاعية تمتلك القدرة علي المحافظة علي بقاء جيناته التراثية التي تعمل بفاعلية في مواجهة التحديات الخارجية. ضياع تلك الميكانزمات يدفع بلا وعي نحو فضاء الكتروني مبهر يسهم في تشكيل عقليته, أو تزييف وعيه أو تخدير فكره, فيصبح من السهولة بمكان تسيير توجهاته, فيندمج عن بعد في عالم افتراضي تصنعه وكالات إعلامية كبري عابرة للقوميات ووسائط عنكبوتيه وآليات فنية ترتكز علي أسلوبي المنح و المنع, وتتمكن من استنساخ عقليات قابلة للانحياز والتبعية وتتسم بغياب الفكر الوطني, مستعدة لتهميش ثقافتها المحلية, وتبديل قيم الانتماء بقيم كونية لا تعترف بالخصوصية الثقافية, متقبلة لمنظومة قيمية تأخذ بثقافة كونية موحدة. ففي ظل تيارات عولمية كاسحة اجتاحت العالم, وتمكنت من إلغاء المكان والزمان, وعملت علي تجسير الفواصل بين الثقافات,رغم تنوعاتها و تبايناتها. في ظل كل هذا تشكلت منظومة قيمية جديدة تحمل بين طياتها تناقضات تجمع بين دعاوي إنسانية معلنة وإجراءات تعسفية في التطبيق, فهي تدعو للتعايش و قبول الآخر ونشر العدالة وترسيخ الديمقراطية وممارسة الشفافية وتطبيق مبادئ حقوق الإنسان بينما تنتشر واقعيا الحروب والصراعات وعدم التكافؤ بين الشعوب, والتحيز لشعوب علي حساب شعوب أخري. وهنا تصبح مصطلحات ومقولات مثل:جيران في عالم واحد وقرية كونية صغيرة ومساواة وعدالة تحقق الأمن والأمان لكافة الشعوب, و نظام دولي جديد لا يعرف العنصرية ولا يفرق بين دين وآخر أو بين شعب وغيره, لا معني لها في ظل واقع يسوده عدم التكافؤ وتستخدم فيه القوي العالمية الكبري ما يسمي ب حق الفيتو الذي يحدد مصائر الشعوب. إن هذا التناقض الواقعي ينعكس علي الخطاب الإعلامي الفضائي; مما يثير لدي المهمومين بقضايا مجتمعاتهم تساؤلات عدة أهمها يدور حول الدور, الظاهري والخفي, الذي تؤديه وسائط الإعلام الالكتروني وأدوات التقنية الرقمية المبهرة, التي تصوغها المؤسسات العالمية والوكالات المتخصصة في فنون الإعلان, في الترويج لثقافة العولمة, مستخدمة وسائل التقنية الحديثة بهدف ترسيخ أنماط كونية من القيم الاجتماعية التي تنكر علي الشعوب حقها في التمسك بخصوصياتها الثقافية والمحافظة عليها من الانقراض أو التهميش,إنها بالأحري لا تعترف بغير قيمها الغربية التي تنظر إليها علي أنها النمط المثالي الوحيد الذي يجب تعميمه علي كافة الشعوب, فأصحاب فكر العولمة ينطلقون بوعي من مقولة ثقافة كونية موحدة تنطلق من المركز لتسود عقول القاطنين في الأطراف مدعين أنها طريق التقدم لكافة الأمم, فهي السبيل الأمثل لتطوير دول الأطراف وتحديث مجتمعاتها; رافعين شعار التحديث الإلكتروني باعتباره ثمرة التحولات الحديثة في مجال تقنية الاتصالات والتقدم التقني الناتج عن اندماج الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات وتأسيس مجتمع المعرفة, فقد أحدث تطويرا في عالم الاستقبال الحر وأتاح التفاعل مع الآخرين دون رقيب مما زاد من فرص تبادل المعلومات و إرساء مبادئ الحرية في الاتصال مع الأخر و التواصل من خلال شبكة عنكبوتيه لا تعرف الحدود. في مقابل نشر ثقافة العولمة يدعو أصحابها إلي تأسيس منظومة كونية لقيم جديدة, لا تعير اهتماما بحضارات الشعوب ولا تعترف بالتراث الأخلاقي الذي كان يميز تلك الدول, فسادت التناقضات واختلت المعايير و ظهر نمط مستحدث من الصراع الحضاري تبلور في تناقض فكري بين ثقافتين ثقافة الأنا, وثقافة الآخر, ويعاني إنسان العالم الثالث مناخ التناقض أو بالأحري يعيش حالة أنومي يفتقد فيها ثقافته, ويتناسي حضارته, وتختل معاييره في الحياة; فيظل حائرا بين ثقافته التقليدية والأخري المستحدثة, فالأولي تنشأ عليها ونهل منها معاييره وأخلاقياته, واقتحمت الثانية عالمه فأبهرته بحداثتها وبما تقدمه من سلع ثقافية أنتجت في المراكز المتقدمة, والأولي تراثية تشكلت من عبقرية المكان والأخري معاصرة تأسست علي عبقرية إلغاء المكان, فبات إنسان العالم الثالث يحمل ازدواجية التعايش و الصراع, فانقسم الناس إلي فرق ومذاهب تقع علي متصل يجمع بين طرفيه التأييد الكلي من ناحية أو الرفض الكلي من ناحية أخري, و بينهما من يتبني الوسطية بدرجاتها المتباينة( الواضحة أو المشوهة); لذا فمنهم من انغمس في تراثه دون إخضاعه للنقد أو تنقيته من أساطيره فانحاز له كليا, و منهم من اندفع مهرولا نحو الآخر فاقدا لتراثه أو رافضا له. و في كلا الحالتين تزداد لدي كل منهما حالة من حالات الاغتراب إما بالانفصال عن خصوصية واقعه أو الانعزال عن العالم. علي الرغم من أن الإعلام الالكتروني تميز بمزايا عدة, إلا أن تلك المزايا لم تمنع من إثارة مخاوف لدي رجال الفكر والمهمومين بقضايا الأمن الثقافي وحقوق الإنسان وهو ما يدعونا إلي المراجعة والتحوط أمام التحديات الثقافية التي تواجهها الدول المتلقية غير المشاركة في الإنتاج المعرفي, ولا شك أن الدول المستهلكة في حاجة إلي تنمية الوعي التقني, و في أمس الحاجة إلي تكوين كوادر بشرية مؤهلة و مدربه بالصورة التي تسمح باستخدام تلك التقنية الإلكترونية والمشاركة في إنتاجها لمواصلة التطور وسد الفجوة المعرفية التي تزداد بين منتجي المعرفة ومستهلكيها مما يشكل عقبة حقيقية تتمثل في قواعد المنافسة غير المتكافئة في السوق المعرفي علي الصعيد الدولي. سوف يظل السؤال الأكثر إلحاحا: إلي أي مدي تستطيع دول العالم الثالث المشاركة في إنتاج مجتمع المعرفة ؟, وهل تتمكن حكومات تلك الدول من تنمية الرأسمال البشري القادر علي المنافسة وإثبات الذات ؟, وهل تنصاع لأوامر أصحاب القوي التي تدعو إلي ضرورة تخلي تلك الدول عن تراثها الحضاري الذي فقدته أو تكاد أن تفقده أمام تدفق سلع ثقافية مغرضة تتدفق بلا حدود من مراكز العالم ؟, كيف تعيد دول العالم الثالث مكانتها الحضارية علي خريطة العالم, وما السبيل إلي المحافظة علي تراثها الأخلاقي الداعم للتقدم, والقادر علي التحاور مع الآخر, في ظل أوضاع مفروضة تحت مسمي جيران في عالم واحد؟. لعلنا في حاجة إلي تأسيس مشروع ثقافي متكامل يجمع بين التراث والمعاصرة في ثوب جديد يأخذ في اعتباره التاريخ الأخلاقي والثقافي للأمم والشعوب.