لم يكن التراجع الحضاري الذي أصاب الأمة العربية قاصرا على العلوم الطبيعية فقط ، بل امتد أيضا – وبشكل يدعو للدهشة – إلى مجال الدراسات اللغوية و الأدبية ، فبعد الدراسات الرائدة التي قدمها كبار النقاد العرب منذ أكثر من ألف عام ، توقف العقل العربي الحديث عن مواصلة ما بدأه الرواد حتى فوجئنا بمجموعة من النقاد يقومون باستيراد نظريات غربية لغوية و أدبية و هم في حالة انبهار بهذا المنتج الثقافي الوافد ، ثم فوجئنا ثانية و نحن نفحص المحتوى القيمي لهذه المنتجات المستوردة ، فوجدناها (صدى) للتراث العربي اللغوي و الأدبي الذي (ربما تم السطو عليه كما يذهب بعض النقاد ) . لقد ملأ النقاد العرب الدنيا ضجيجا بدراسات عالم اللغويات السويسري فرديناند دو سوسيه Ferdinand de Saussure(1857-1913م)وهو يتحدث عن الدال Signifierو المدلول signifiedو اللغة الاعتباطية arbitrary لنكتشف أن الناقد العربي الكبير عبد القاهر الجرجاني(1009- 1078م) قد سبق دو سوسيه بقرون في وضع ملامح نظريته اللغوية . ولم يتوقف الأمر عند دو سوسيه و عبد القاهر الجرجاني . بل وجدنا أيضا أن النظريات الأدبية الغربية الحديثة و خاصة الشكلانية الروسية Russian Formalism ما هي إلا اقتفاء لخطى الجاحظ (159- 255 ه ) الناقد العربي الكبير حتى نستطيع أن نقول باطمئنان إن الشكلانية الروسية امتداد لأقوال الجاحظ ونظريته الأدبية الجاحظ التي سوف نتعرض لبعض ملامحها بعد عرض موجز لمفهوم الشكلانية الروسية بعيدا عن تفاصيل نشأتها (1910-1930) و أبرز مدارسها في ذلك التوقيت ( حلقة موسوكو اللغوية (اللسانية )( 1915: Moscow Linguistics Circle ) ثم جمعية( (أبوياز) التي تعني ب دراسة اللغة الشعرية التي تأسست في سنت بطرسبرج 1916: OPOYAZ (Society for the Study of Poetic Language) St. Petersburg ..ولن نتحدث عن تطورها السياسي و تصادمها مع الأيدلوجية السائدة آنذاك ، ولا عن خصومها ، لن نتحدث عن الحياة الخاصة لمؤسسيها . فما يعنينا من الشكلانية الروسية هو ما تمثله من قيمة علمية و جمالية لنظرية الأدب ، و التأثيرات الكبرى التي أحدثتها في المدارس اللغوية و الأدبية في أوروبا الغربية في النصف الثاني من القرن العشرين ، ونقارن بينها وبين نظريات (لا نظرية واحدة ) النقد العربي القديم على مدار قرون قبله، وخصوصا (نظرية الجاحظ ). سنتحدث عن المقالات والدراسات والثورة( العلمية الأدبية) لهؤلاء :فيكتور شيكلوفيسكي ،Viktor Shklovsky ، يوري تينيانوف ،Yuri Tynianov ، فلادمير بروب Vladimir Propp ، بوريس إيخنباوم Boris Eichenbaum ، رومان جاكوبسون Roman Jakobson ، بوريس توماشفسكي ،Boris Tomashevsky ، جريجوري جوكفسك Grigory Gukovsk ، و سأبدأ بأحد المصطلحات الجمالية الشكلانية الشهيرة وهو مصطلح كسر المألوف (??????????) (Defamiliarization ) الذي ابتكره الكاتب الروسي فيكتور شكلوفسكي ??????? ?????????? ?????????? في إحدى مقالاته (1917) بعنوان : الفن كتكنيك (Art as a technique (device يقول شكلوفسكي: The purpose of art is to impart the sensation of things as they are perceived and not as they are known. The technique of art is to make objects ‘unfamiliar,' to make forms difficult to increase the difficulty and length of perception because the process of perception is an aesthetic end in itself and must be prolonged إن الغرض من الفنون هو نقل الإحساس بالأشياء كما تدرك ، لا كما تعرف.و إن تقنية الفن هي جعل الأشياء غير مألوفة بحيث تكون الأشكال صعبة و ذلك من أجل تصعيب وإطالة مدة الإدراك . لأن عملية الإدارك هي غاية جمالية في ذاتها ، وينبغي إطالتها . ولقد سبق الجاحظ شكلوفسكي بأكثر من ألف عام في التركيز على قيمة الإغراب و الإدهاش (كسر المألوف) باعتباره قيمة جمالية في العمل الأدبي أو الفني . يقول الجاحظ : لأن الشيء من غير معدنه أغرب ، وكلما كان أغرب كان أبعد في الوهم (التصور) ، وكلما كان أبعد في الوهم كان أطرف وكلما كان أطرف كان اعجب (أكثر إدهاشا) و كلما كان أعجب كان أبدع (أكثر إبداعا ثم يواصل الجاحظ حديثه عن تأثير الغرابة و كسر المألوف في الناس (المتلقي بشكل عام : والناس موكلون بتعظيم الغريب، واستطراف البعيد، وليس لهم في الموجود الراهن، وفيما تحت قدرتهم من الرأي والهوى، مثل الذي زهّد الجيران في عالمهم، والأصحاب في الفائدة من صاحبهم. وعلى هذا السبيل يستطرفون القادم عليهم، ويرحلون إلى النازح عنهم، ويتركون من هو أعم نفعا وأكثر في وجوه العلم تصرفا، وأخف مؤونة وأكثر فائدة ولذلك قدّم بعض الناس الخارجي على العريق، والطارف على التليد ليس هذا فحسب ... بل إن شكلوفسكي في حديثه عن كسر المألوف قد وقع في مجموعة من الأخطاء الجمالية التي تحدث عنها الجاحظ قبله بأكثر من ألف عام . وقد تبع الجاحظ في مفهوم الغرابة هذا عبد القاهر الجرجاني وحازم القرطاجني وغيرهما .. لكني آثرت الجاحظ لأنه كان من أوائل من تحدثوا عن ذلك المفهوم الجمالي . و لكن أكثر النقاد العرب ( المنبهرين و المنهزمين) يتحدثون عن صبية الشكلانية الروسية شكلوفسكي وغيره.. ويهملون الجاحظ الرائد العربي الكبير. .