يسأل بطل إحدى روايات الكاتب السوداني الطيب صالح مخاطبه: “قل لي.. دول العمال والفلاحين وين بلادهم؟”. السؤال ناجم عن صعود الخطاب الماركسي اللينيني في سبعينات القرن الماضي وتمجيده العمال والفلاحين كبناة للسعادة البشرية المطلقة على وجه الأرض واعتبار نظامهم الأكثر عدالة في التاريخ إذ يلغي استغلال الإنسان للإنسان ويؤسس مجتمعا تسوده قاعدة ماركس الشهيرة “كل حسب طاقته ولكل حسب حاجته”. وكان من المفترض أن يكون الاتحاد السوفييتي بلاد العمال والفلاحين المفترضة ويتمنى المرء أن يكون بطل رواية الطيب صالح وأمثاله من الحالمين قد ذوى قبل انهيار التجربة المذكورة بالطريقة المأساوية المعروفة كي لا يرى بأم العين حلما تحطم فجأة ك “قصر من الكرتون” على حد الوصف الفرنسي الرائج للتجربة السوفييتية دون استئذان العمال والفلاحين وبغير اكتراث بهم. على نقيض “بلاد العمال والفلاحين” نهضت صيغة “المجتمع الدولي” على أنقاض الحرب الباردة وانتشرت بقوة الأمر الواقع لتعبر عن إرادة المنتصرين في الحرب. والحق أن احدا لم يعتن ببعدها الإيديولوجي ولم يشدد على يوتوبيتها. كان بوسع المنتصرين إطلاق أية تسمية دون أن تصادف معترضين، وإن صادفت فلن يعبأ أحد بهم، ذلك أن انتصارا عالميا بهذا الحجم لا يتيح هامشاً يذكر للمناورة والاعتراض ولأشياء أخرى مشابهة. هكذا صار على العالم أن يقبل صاغرا صيغة “المجتمع الدولي” بمعناها المباشر: نحن المنتصرين في الحرب الباردة قررنا أننا المجتمع الدولي. أقوالنا وأفعالنا هي أقوال العالم وأفعاله ومن لا يرغب عليه بشرب مياه البحر. لا تبعد صيغة المبالغة المذكورة عن الواقع كثيراً. فقد اعتمدت حرفيا في مناسبات عديدة خلال العقد ونصف العقد المنصرم وخصوصا في بلاد العرب: المجتمع الدولي لا يريد مقاومة ل “إسرائيل”. لقد قرر ان المقاومة إرهاب وعلى المعنيين الانصياع. المجتمع الدولي لا يريد لجنة تحقيق في مجزرة جنين لأن “إسرائيل” كانت تدافع عن نفسها في المخيم الفلسطيني. المجتمع الدولي لا يرى حاجة للجنة تحقيق دولية في وفاة ياسرعرفات وليس مهماً أن كان قد مات مسموما أو بصورة طبيعية. المجتمع الدولي شرع الحرب على العراق على الرغم من اندلاعها رغم انفه. المجتمع الدولي قرر أن مزارع شبعا غير لبنانية. المجتمع الدولي لا يحتاج للجنة تحقيق دولية في اغتيال رئيس الوزراء “الإسرائيلي” اسحق رابين لأن “إسرائيل” تحقق بنفسها وهي شرطي المنطقة لمن يريد أن يعرف. المجتمع الدولي لا يريد لجنة تحقيق دولية في مجزرة “تيان ان مين”. المجتمع الدولي يريد حل مشكلة كوريا الشمالية بالوسائل الدبلوماسية. وأخيرا المجتمع الدولي يريد الحقيقة كاملة في اغتيال رفيق الحريري ولا يهمه معرفة الحقيقة في اغتيالات لبنانية سابقة ولاحقة وفي اغتيالات عربية وعالمية أخرى. لقد صار حديث المجتمع الدولي دعاويا إلى حد من شأنه أن يستفز بطل روايات الطيب صالح وغيره: إذا كان هذا المجتمع ينشد العدالة والاقتصاص من المجرمين فأين هي بلاده؟ العالم مسرح مترامي الأطراف تعرض على خشبته مشاهد الظلم والتعدي والتخريب والاغتيال والقتل العمد واختراق القوانين والاستخفاف بحياة ومستقبل الضعفاء والسيطرة على مواردهم وقتل الملايين بلا رادع في أفريقيا وغيرها. إذا كان المجتمع الدولي هو العالم وإذا كان هذا العالم مسرحا للظلم والإجرام والموت اليومي فمعنى ذلك أنه هو نفسه يحتاج إلى لجان تحقيق دولية وإلى قضاة ومحاكم دوليين والى عقوبات وقصاص لكن من يعاقب؟ ومن يقاصص؟ ومن يجرؤ على طرح سؤال قضائي على سادة هذا المجتمع بل على زعيمته الأمريكية التي لا تعترف بمحكمة الجنايات الدولية وترفض تقديم مجرميها الصغار أمامها، أما مجرموها الكبار وحكامها فهم قضاة يدعون ولا يدعى عليهم. تسكن صيغة “المجتمع الدولي” اللغة وحدها بل يمكن الحديث عن أزمة سكنية في اللغات العالمية وفي طليعتها اللغة العربية. وهي ككل الصيغ الديماغوجية تستحضر كمهرب وكوسيلة لخداع عامة الناس من طرفين معنيين. دولة أو دول قوية قاهرة ودولة أو دول خاضعة. الطرف الأول يريد تنظيم إخضاع الطرف الثاني ويلجأ قبل “الضرب على يده” إلى الصيغة المذكورة. في حين يتململ الطرف الثاني ويسعى لكسب الوقت فيلجأ إلى الصيغة نفسها. هكذا يبدو المجتمع الدولي كقاعة انتظار أو مكان لإضاعة الوقت. لم يسبق لدول في العالم أن استخدمت صيغة “المجتمع الدولي” بإفراط كالدول العربية. ولم يسبق لدول في العالم أن خدعت شعوبها بالحديث عن المجتمع الدولي كالدول العربية. ولم يسبق لدول في العالم أن استدرجت “المجتمع الدولي” إلى قضاياها ونزاعاتها الداخلية كالدول العربية ويرجح أن يكون “المجتمع الدولي” المعظم قد صرف وقتا في انتظار القضايا العربية بما يعادل ما صرفه في انتظار بقية قضايا العالم بأسره. لقد خسرنا فلسطين على الأرض فقالت دولنا اننا خسرناها في مجلس الأمن بالتصويت وينطوي القول على سوء ظن أو خطأ ارتكبته العدالة الدولية. وحصلنا على قرارات ضد “إسرائيل” وما زلنا نطالب منذ أكثر من نصف قرن بتطبيقها مع الإيحاء لشعوبنا بحسن ظن المجتمع الدولي. واعتدت دولنا على بعضها بعضاً وطلبت عدالة المجتمع الدولي الذي أمعن في إخضاعنا والسخرية منا وما زلنا نطلب المزيد فيحار العالم بأمرنا أنحن مازوشيون أم أغبياء إلى حد يفوق الوصف؟ وصف الجنرال شارل ديغول ذات يوم مجلس الأمن المعبر عن المجتمع الدولي ب”.. ذلك الشيء التافه”. كانت بلاده وما زالت تملك حق الفيتو في هذا “الشيء” الموصوف الذي صار كذبة يصر العرب وحدهم على تصديقها. ---- صحيفة الخيلج الإماراتية في 26 -10 -2005